ثلاثة أنفاق

لم يكن ينقص المحاولة، سوى التوافق على نفق واحد. منذ تلك الساعة ظلت الأنفاق تتعدد، ولا تزال!
الأحد 2020/06/14
ذكريات من الأسر

كنا في سجن بئر السبع الصحراوي، عندما اختصنا السجانون بعنبر حديث البناء، معزولٍ عن سائر المهاجع في المعتقل الشاسع. أطلقوا على العنبر اسم “الإكسات”. هو عشرون “إكساً” يتسع الواحد منها إلى اثنين، وفي كل منها مرحاض صغير وفوقه مرش استحمام، لكي يكون الإغلاق علينا باتاً عند الحاجة، بحيث نتناول طعامنا من فتحة صغيرة في الباب. كان زياد النخالة وطلال طراد، قد أضمرا خطة شجاعة وطموحة، للهرب. دأبا على رفع قاعدة المرحاض ليلاً والحفر تحته. فقد رسما في المخيلة، خارطة لخط المجاري الذي يمتد إلى ما وراء جدران السجن. وفي كل يومين، كان السجّان يأتي ويفتح ويتيح لأحد الاثنين، حمل وعاء القمامة الصغير، لكي يُفرغه في وعاء أكبر في الخارج!

ما أبطأ الرحلة على المتحفزين للهروب. فكم حفنة رمل، يتوجب اغترافها من الأرض، ويحتاجها الحافرون، للوصول إلى خط المجاري؟ لم يكن زياد أو طلال، هو الذي لفت انتباه السجان إلى ثِقل القمامة المنقولة إلى الخارج. السجان السمين قصير القامة، الذي يتلعثم في النطق، تنبه إلى ثقل قمامة أخرى. ارتقى بصعوبة إلى حافة جدار الوعاء الكبير فشاهد رملاً وحجارة. احتفظ بهدوئه، لريثما يُعيد السجين إلى “الإكس” ثم انتفخت أوداجه وهو يطلق صافرة الخطر متوتراً. هُرع السجانون إلى “الإكسات” ولما علموا بالأمر، ذهبوا ثم عادوا وفي أيديهم المطارق، يضربون بها قاعدة كل مرحاض من العشرين لاختبارها ومعرفة أين تقع المساحة الفارغة، وتحت أي موضع يجري الحفر. كانت المفاجأة، اكتشاف ثلاث قواعد مراحيض، تقوم فوق ثلاثة أنفاق، دون أن يعلم أي نفق شيئاً عن الآخر. بل إن المفاجأة كانت في أصحاب الأنفاق، ما عدا أبو طراد، فهو وحده من هواة القطع المعدنية واقتناء المسامير وتشبيك الأسلاك. أما البقية، فقد كانوا من قُراء الكتب، وعُرفوا من بين الهادئين ومفوهي السياسة.

انفجر الموقف ونهضت الأسئلة: لماذا كانت ثلاثة أنفاق وليس نفقاً واحداً، يخدم الجميع؟ وما هو المتوقع، في حال استكمال الحفر وصولاً إلى خط الصرف الصحي؟ ومن ذا الذي بمقدوره من البدناء، الانسلال عبر الخط، بينما الحافرون النحفاء من أولي العزم، قد حسموا أمرهم واستعدوا للغوص في خط الصرف؟

ما أطول الرحلة المتوقعة وما أكثر مراحلها: الحفر المُضي، ثم الوصول إلى خارج الجدران، ثم اجتياز مساحة الصحراء، فالالتحاق بمواضع الاختباء وسط الكتلة الشعبية، ثم استئناف السياق الكفاحي وامتطاء الخطر من جديد.

لم يكن ينقص المحاولة، سوى التوافق على نفق واحد. منذ تلك الساعة ظلت الأنفاق تتعدد، ولا تزال!

24