تونس وأزمة اللاجئين: المعالجة بعيدا عن الأضواء

خطابات الرئيس التونسي الحماسية والتي تتبنى الصراحة والوضوح تجلب ردودا مغايرة في فهمها في الخارج في ظل مواقف ملتبسة يتداخل فيها السياسي بالحقوقي.
الأحد 2023/07/30
هناك حاجة للتفكير بعقل بارد في ملف الهجرة المعقد

جلب الاهتمام التونسي المبالغ فيه بقضية اللاجئين الأفارقة نتائج عكسية. وبدلا من تطويق هذه الظاهرة والحد من التدفقات، حصل العكس، فقد صارت الأضواء مسلطة على تونس من كل اتجاه، من الداخل حيث بات الموضوع حديث العام والخاص وأذكى نزعة كراهية الآخر، ومن الخارج، حيث اهتمام المنظمات الحقوقية والجهات الرسمية الغربية.

المبالغة في موضوع المهاجرين أصبح ما يشبه النبوءة التي حققت ذاتها، وبدلا من طرد اللاجئين وتضييق الهامش أمامهم لدخول البلاد، سيميل هؤلاء أكثر إلى تونس لأن العين عليها، دبلوماسيا وحقوقيا وإعلاميا، وستجد نفسها مجبرة على التريث في أيّ خطوة تخطوها.

وهذا الاهتمام الدولي المبالغ فيه قد يؤمّن لهم العبور إلى أوروبا عكس دول الجيران، حيث تكتفي المنظمات الحقوقية بإصدار بعض البيانات الباردة بشأن ما يتعرض له اللاجئون من انتهاكات لدى الميليشيات المتحكمة في ليبيا، غربها وشرقها.

◙ تونس تحتاج إلى أن تفكر بعقل بارد في ملف معقد لن تتوقف الردود والانتقادات بشأنه، وتضع أمامها ميزان المصالح قبل أن تتخذ أيّ قرارات أو تحدد موقفا

وتسكت هذه المنظمات تماما عن عمليات الطرد الجماعي لهم في الجزائر سواء بإعادتهم من حيث جاؤوا، حيث تقول تقارير أممية إن الجزائر رحّلت أكثر من تسعة آلاف مهاجر إلى النيجر خلال النصف الأول من العام الحالي، أو بدفعهم لدخول تونس المشغولة بأزماتها المالية والاقتصادية فيزيدون من الأعباء عليها.

وصارت تونس واقعة تحت تأثير هذا التركيز الإعلامي والاتهامات التي توجه لها ولرئيسها بالعنصرية، حيث بادر الرئيس سعيد بزيارة إلى ولاية صفاقس (جنوب شرق) وضبط لقاء مع لاجئين أفارقة والتقط صورا معهم في حركة رمزية لتأكيد أن اللاجئين مرحّب بهم على مستوى رسمي، وأن الدولة تحميهم وتقف في وجه الحملات التي تعرض لها بعضهم في مناطق مختلفة من البلاد.

ووجّه قيس سعيد في خطابات كثيرة الجهات المعنية بتأمين وجود هؤلاء اللاجئين وحمايتهم ومعاملتهم كضيوف.

وفي محاولة لتبديد ردود الفعل على خطابه الملتبس في 21 فبراير الماضي، والذي تم تأويله وتصنيفه ضمن العنصرية ضد الأفارقة، اتخذ الرئيس التونسي سلسلة من الإجراءات لفائدة الأفارقة الموجودين بالبلاد من بينها تسليم بطاقات إقامة لمدة سنة لفائدة الطلبة من البلدان الأفريقية، والتمديد في صلاحية وصل الإقامة من ثلاثة إلى ستة أشهر، فضلا عن تسهيل عمليات المغادرة الطوعية، وإعفاء المهاجرين في وضع غير نظامي من دفع غرامات التأخير في مغادرة البلاد.

وضمن سلسة الإجراءات الهادفة إلى “تبرئة النفس” من معاداة الأفارقة، أقرت السلطات التونسية منذ أيام زيادة في عدد المقاعد الدراسية المخصصة لكافة الطلبة القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، خلال السنة الجامعية المقبلة، بنسبة 25 في المئة مقارنة بالسنة الجامعية الماضية.

وتقول أوساط سياسية تونسية إن الرئيس سعيد وحكومته بالغا في الاهتمام العلني بقضية اللاجئين، التي يفترض أن تدار بشكل عادي مثلما يحصل في دول حوض المتوسط الأخرى، أي من خلال الإجراءات الإدارية التي تعود إلى الوزارات حسب اختصاصها، من الداخلية إلى الخارجية.

وتشير هذه الأوساط إلى أن ظهور الرئيس سعيد ليتحدث عن الموضوع باستمرار حوّله إلى قضية أمن قومي داخليا، وجلب اهتمام المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الأجنبية لتحوّله إلى مادة يومية للتصريحات والبيانات.

◙ وزير الخارجية يمكن له أن يدير قضية اللاجئين ويخفف من ضغوطها على تونس، فمن الواضح أنه واع وملمّ بمختلف الملفات
وزير الخارجية يمكن له أن يدير قضية اللاجئين ويخفف من ضغوطها على تونس، فمن الواضح أنه واع وملمّ بمختلف الملفات

صحيح أن قيس سعيد يقدم مقاربة مختلفة للموضوع ويريد معالجة قضية الهجرة من جذورها ويتعامل معه موجات اللاجئين وفق مقاربة السيادة الوطنية التي يتبنّاها، ولا يريد أن تتحمل تونس أخطاء أوروبا والغرب عموما في علاقته بدول الجنوب.

لكن خطابات الرئيس التونسي الحماسية والتي تتبنى الصراحة والوضوح تجلب ردودا مغايرة في فهمها في الخارج في ظل مواقف ملتبسة يتداخل فيها السياسي بالحقوقي. كما أن التفاعل مع هذه الخطابات في الداخل لا يحقق ما تهدف إليه، فأيّ حديث عن اللاجئين سلبا أو إيجابا يزيد لدى الناس منسوب العنصرية ضدهم.

ورأينا أن زيارة قيس سعيد للاجئين في صفاقس وإشارات الطمأنة لم تحقق نتائج على الأرض، حيث توتر الوضع وحصلت مشادات وخلافات بين هؤلاء اللاجئين وسكان المنطقة، ما اضطر الرئيس سعيد للتدخل مجددا والتساؤل عن السبب الذي يجعل الآلاف من اللاجئين يتجهون في حركة منظمة إلى هذه المدنية، ولماذا هي بالذات؟

لا يمكن للرئيس أن يكون مع اللاجئين مئة في المئة، ولا مع المطالبين برحيلهم مئة في المئة، فلديه حسابات داخلية أيضا، وهو مضطر إلى “تفهم” الموجة الشعبية الغاضبة من وجود اللاجئين للحفاظ على شعبيته، وهي موجة فيها ما هو واقعي خاصة مع زيادة أعداد الأفارقة وما يرافق وجودهم من أعباء اقتصادية ومن صدام في السلوكيات والقيم، وفيها ما هو غير مبرر، وهو يعبّر عن نزعة عنصرية مبطنة أحيانا ومعلنة أخرى داخل الشارع التونسي ضد هؤلاء.

ومع تقدم الوقت ستكبر كرة الثلج ومن الصعب تطويقها، فتونس ليست قادرة على استيعاب هؤلاء اللاجئين والاحتفاء بهم وتشغيلهم وتقديم الخدمات لهم، ولا هي قادرة على طردهم أو صد الموجات التي تأتيها كما تفعل دول في غرب المتوسط تحاول أن تلزم تونس بما لا تفعله هي.

يحتاج الأمر إلى خطة تحرك سريعة دبلوماسيا وإعلاميا بهدف تبريد هذا التضخيم، والأهم ضمن عناصر هذه الخطة هو ابتعاد الرئيس عن التداول في هذه القضية. يمكنه أن يترك وزارة الخارجية تعمل وتتحرك سواء في علاقتها بدول الجوار التي يتسلل منها اللاجئون أو مع دولهم الأصلية، أو مع الدول التي يريدون الهجرة إليها، وهي تصدّهم.

ومثلما أن من حق المنظمات الحقوقية أن تنتقد وتصدر البيانات وتدافع عن اللاجئين، وهذا دورها الذي تحصل على الدعم والتمويل كمقابل له، فمن حق الدول أن تتحرك وفق مصالحها وحساباتها وظروفها الداخلية، وأن يظهر مسؤولوها للدفاع عنها وتفسيرها وفق الضوابط التي تضعها لنفسها.

ومعركة التبرير والتفسير والشرح لا يمكن أن يديرها رئيس الجمهورية، فهذه مهمة القنوات الدبلوماسية والأمنية المعنية بقضية اللاجئين. ويمكن للرئيس أن يتحدث في هذا الموضوع خلال لقاء قمة مثل اللقاء التونسي – الأوروبي الذي أفضى إلى توقيع اتفاق “الشراكة الإستراتيجية”.

والرئيس عادة يوجه مقاربة عامة تضبط توجهات الدولة، والوزارات المعنية تستخرج منها خططها وطرق تحركها، بدلا من أن تجد نفسها تقدم التفسيرات والتبريرات.

يمكن لوزير الخارجية نبيل عمار أن يدير هذه القضية ويخفف من ضغوطها على تونس، فمن الواضح أنه واع وملمّ بمختلف الملفات وطريقة إدارتها، وسيجد طريقة لإدارة ملف الهجرة خاصة أن الرجل اشتغل في دول أوروبية عديدة، ولديه خبرات كافية وعلاقات متعددة، على أن يعطى حرية التحرك واتخاذ الموقف ضد المقاربة العامة، لا أن يكون دوره إصدار بيات التفسير.

◙ المبالغة في موضوع المهاجرين أصبح ما يشبه النبوءة التي حققت ذاتها، وبدلا من طرد اللاجئين وتضييق الهامش أمامهم لدخول البلاد، سيميل هؤلاء أكثر إلى تونس لأن العين عليها

يمكن لوزير الخارجية أن يقود حملة عقلانية لإظهار أن موقف تونس لم يكن كما تم تصويره، وأن الهدف لم تكن تحكمه نظرة عنصرية، وليس خطابا للكراهية، وأن قلق تونس من الهجرة مرتبط بالأعباء التي تتحملها لوحدها لاستضافة موجة اللاجئين.

كما أن الخبرة الدبلوماسية للرجل تسمح له بالتحرك لتكوين لبنة لوبي داعم لتونس ومتفهم لمواقفها في الغرب للتخفيف من الهجمة عليها، وهي هجمة متداخلة ومتشابكة وليس موضوع اللاجئين سوى واجهة لها.

تحتاج تونس إلى أن تفكر بعقل بارد في ملف معقد لن تتوقف الردود والانتقادات بشأنه، وتضع أمامها ميزان المصالح قبل أن تتخذ أيّ قرارات أو تحدد موقفا. فما يجري على الحدود مع ليبيا، وما ينقل من صور وتقارير عن لاجئين متروكين لمصيرهم في الصحراء لا يكفي التكذيب لتبديده أو الالتفاف عليه.

على تونس أن تتصرف كدولة ملزمة بقوانين وقيم، حتى لو كلفها ذلك الإحراج في الداخل. ومجاراة الشعبوية قد تحقق نتائج سياسية آنية، لكنها تتحول إلى ضرر على المدى البعيد على السلطة نفسها، فالذي يساير مرة سيجد نفسه مجبرا على المسايرة دائما، في مسار لا أحد يتحكم فيه.

6