تونس من الحياد إلى التأثير المباشر في وقف التصعيد بليبيا

إذا خرج الوضع عن التوازنات التقليدية في ليبيا فإن التصعيد قد يخرج عن نطاقه الداخلي ويتسع ليشمل تونس ويهدد أمنها القومي.
الأحد 2025/05/18
حماية المصالح أولوية تونس 

دعت تونس، مساء الجمعة، إلى وقف فوري للتصعيد في ليبيا، وأبدت استعدادها لاستضافة حوار ليبي برعاية أممية من أجل التوصل إلى حل سياسي ووقف أعمال العنف.

وتشعر تونس الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، أن الوضع في ليبيا بات يهدد أمنها بصفة جدية، وأن عليها التدخل لرعاية حوار بين الفرقاء في الجارة الجنوبية في أقرب وقت.

وتأخرت المبادرة التونسية أكثر من اللازم. فمن البداية كان من الواضح أن تونس هي الأقرب لرعاية الحوار الليبي – الليبي ليس فقط بين جماعة غرب ليبيا، ولكن أيضا بما في ذلك بينهم وبين جماعة الشرق بالتنسيق مع الجزائر ومصر، فالدول الثلاث معنية بتطورات الوضع في ليبيا سلبا أو إيجابا.

وهناك عناصر كثيرة بيد تونس تمكنها من أن تكون الطرف الأول الراعية للحوار الليبي الداخلي. ولا يتعلق الأمر بالتاريخ والجيرة فقط، فهناك ما هو أكثر حيوية مثل العلاقات الاقتصادية، والعلاقات الأسرية ووجود الآلاف من اليد العاملة التونسية في ليبيا، والآلاف من الليبيين المقيمين في تونس كليا أو جزئيا.

◄ تونس لا تريد أن يبدو تدخلها بين الفرقاء وكأنه خدمة لمصالحها أو انحياز لجهة بعينها، ولذلك عرضت أن يكون الحوار الليبي تحت مظلة الأمم المتحدة

وفي العلاقات الاقتصادية لا يوجد رابح وخاسر، ولا يمكن للتونسيين أن يقولوا دعنا نغلق الحدود ولنرتح من القلاقل المستمرة في جارتنا الجنوبية. كما لا يمكن لليبيين أن يقولوا لا نحتاج تونس ولدينا الأموال التي تكفينا وتسمح لنا بأن نبني شراكات مع دول أخرى بعيدة. جرّبوا هذا وفشلوا، لأن الاقتصاد ليس فقط سلعا ويدا عاملة، وشركات وتوريد.

تونس تريد أن تحصل لشركاتها وعمالتها على حصة كبيرة في إعادة الإعمار، مستفيدة من تجارب الماضي التي جعلت الغرب الليبي يراهن على الشركات والعمالة التونسية، فضلا عن التبادل التجاري ودور تونس الفعال في إسناد الليبيين بعد ثورة فبراير واستقبال الآلاف منهم.

هناك أشياء لا يمكن لفئات من الناس خاصة من الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل أن يبحثوا عنها بعيدا. يمكن للأثرياء أن يفعلوا ما يريدون بأموالهم بعيدا، لكن الفئات المتوسطة لا تقدر أن تنفق على الصحة أو السياحة مثلهم، وهو ما يفسّر الإقبال الكبير لليبيين على التداوي في مصحات تونس وزيارة أطبائها في مختلف المدن الكبرى مثل صفاقس وسوسة والعاصمة تونس. كما أن قدرات هذه الفئة لا تمكنها من البحث عن الخدمات السياحية في أماكن بعيدة، ولذلك يمثل الليبيون جزءا هاما من الوافدين إلى تونس خلال السنة، وبالأخص في فصل الصيف.

ومن فترة حكم العقيد الراحل معمر القذافي كانت تونس الأكثر حرصا على تجنيب الشراكة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية تشابكات السياسة ونجحت في ذلك. لكن بعد 2011 لم تعرف تونس كيف تتعامل مع تشابكات الوضع في ليبيا. وفيما استقرت تونس سريعا بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وبنت مؤسسات جديدة، حتى لو كانت هشة ومرتبكة تحت تأثير الخلافات السياسية، فإن ليبيا لم تقو على تجاوزها كليا في ظل خلافات حادة بين نخبها وقواها القبلية والمناطقية، ما عرقل الاستقرار السياسي رغم توقف الحرب وانفصال البلد عمليا إلى بلدين، واحد في الشرق وآخر في الغرب.

في ظل الحرب الليبية – الليبية داخل الغرب ومع الشرق، نأت تونس بنفسها عن الصراع كليا، ولم تسع لأن تكون وسيطا فعالا للمساعدة على تخفيف التوترات وعقد لقاءات بين الفرقاء والكثير منهم يزور تونس بشكل دوري أو يقيم فيها ويمكنهم اللقاء والحوار وإبرام التفاهمات.

◄ تونس أعربت عن استعدادها لتكون أرض التلاقي بين الأشقاء الليبيين من أجل حوار ليبي – ليبي برعاية بعثة الأمم المتحدة في ليبيا

السبب في الانكفاءة التونسية عن الملف الليبي يتعوّد بدرجة أولى إلى الخلاف السياسي الداخلي بين حركة النهضة الإسلامية وحلفائها من جهة، والمعارضة، وهو خلاف ضربت فيه المزايدات علاقات تونس الخارجية بدءا من ليبيا وصولا إلى قطر والإمارات والسعودية وتركيا. كل شق يضغط لوقف تعاملات تونس مع الدول التي يناوئها حتى خلت تونس من دور الإسناد العربي اقتصاديا كرد فعل على خطاب الكراهية والتشويه.

اتهام النهضة بأنها حليف للمجاميع المسلحة الحاكمة في الغرب الليبية واتهام الحركة لخصومها بموالاة قائد الجيش خليفة حفتر في الشرق والدول المساندة له، انتهى إلى وضع معقد، العلاقة فيه مع الغرب الليبي ضعيفة ومتوترة (استمرار لعبة إغلاق معبر رأس جدير الحدودي)، وشبه متوقف مع الشرق، وبالمجموع لا دور لتونس ولا تأثير في أزمة ليبيا.

ولتجنّب ردود الفعل الداخلية تركت تونس ملف الوساطة الليبية إلى دوائر إقليمية ودولية لإدارته وفق مصالح بلدانها وتحالفاتهم. والمفارق أن جزءا من لقاءات المصالحة الليبية الداخلية، برعاية أطراف خارجية بعيدة جغرافيا، كان يتم في تونس وبتأمين منها، في وقت كان الأجدر بها أن ترعى هي هذه اللقاءات.

الآن الوضع اختلف كليا، والتوترات في ليبيا كان يتم التحكم فيها عن طريق دول مؤثرة خارجيا، لكن التصعيد الحالي يبدو أنه عصيّ عن السيطرة خارجيا لأنه يمسّ أطرافا مؤثرة مرتبطة بمصالح حيوية لدول خارجية، ما يجعل انتصار شق على شق أمرا مستعصيا وقد يقود إلى تدخل مباشر في الحرب مثلما فعلت تركيا في وقف هجوم المشير حفتر على طرابلس العام 2019.

وإذا خرج الوضع عن التوازنات التقليدية في ليبيا، وتحوّل من صراع فرقاء محليين مسموح به خارجيا في حدود معلومة إلى صراع قوى إقليمية ودولية، فإن التصعيد قد يخرج عن نطاقه الداخلي ويتسع ليشمل تونس، الجارة الأقرب جغرافيا وسياسيا، وخاصة في وجود الآلاف من الليبيين الذين يعيشون في تونس وبعضهم قد يكون شريكا في توازنات الحرب على السلطة في غرب ليبيا، والبعض الآخر متضرر من ثورة فبراير وينتظر الوقت الملائم للانتقام.

◄ تونس تشعر الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، أن الوضع في ليبيا بات يهدد أمنها بصفة جدية، وأن عليها التدخل لرعاية حوار بين الفرقاء في الجارة الجنوبية في أقرب وقت

لم يعد الوقت يسمح بالحياد التونسي في صراعات لا يمكن الإمساك بعناصر الخلاف والتحالفات فيها بيسر في ظل تعدد المستفيدين سياسيا وقبليا ومناطقيا وخارجيا، وهو ما عكسه بيان وزارة الخارجية التونسية الذي شدد على “الكف عن استخدام السلاح، وتحكيم لغة الحوار كسبيل وحيد لحل الخلافات بين الأشقاء الليبيين”.

وشددت وزارة الخارجية التونسية على أهميّة التوافق بين الفرقاء و”الانخراط في مسار شامل تحت مظلة الأمم المتحدة، ويفضي إلى إنهاء العنف والتقدّم بالعملية السياسية نحو تنظيم انتخابات وإرساء مؤسسات موحدة ودائمة للدولة، تراعي مصالح كل الليبيين”.

وأعربت تونس “عن استعدادها لتكون أرض التلاقي بين الأشقاء الليبيين من أجل حوار ليبي – ليبي برعاية بعثة الأمم المتحدة في ليبيا”.

ولا تريد تونس أن يبدو تدخلها بين الفرقاء وكأنه خدمة لمصالحها أو انحياز لجهة بعينها، ولذلك عرضت أن يكون الحوار الليبي تحت مظلة الأمم المتحدة ليكون ملزما ويتم تنفيذه وقطع الطريق على أيّ مناورة للتفصي منه كما حصل مع اتفاقيات سابقة في منصات مختلفة مثل تفاهمات بوزنيقة.

ومن المهم أن تتسامى تونس عن المزاج في تصنيف الفرقاء الليبيين وأن تعتبر المساعدة في حل أزمة غرب ليبيا جزءا من دفاعها عن أمنها القومي خاصة أن فوضى جديدة في ليبيا ستفتح الجارة الجنوبية على مخاطر كتلك التي شهدتها في السنوات الأولى من حرب فبراير، حيث تحولت إلى خاصرة رخوة يتسلل منها وإليها المتشددون ولوبيات الجريمة المنظمة بتهريب السلاح والمخدرات والمهاجرين ما يغرق المنطقة كلها في الأزمات وليس فقط ليبيا أو تونس.

5