تونس: "صح النوم" أيها المتخاصمون

وحدها الطوابير الطويلة أمام محلات بيع المواد التموينية هي ما يؤشر على تفاقم الأزمة الاقتصادية واستفحالها في تونس.
لا الإحصائيات ولا الدراسات ولا التصريحات من الحكومة أو المعارضة أو النقابات، قادرة على إقناع التونسيين بوجهة نظرها.. ثم ما فائدة “وجهات النظر” تلك والحال هو ما هو عليه دون زحزحة أو تغيير؟
تعددت التشخيصات والمرض العضال واحد. تباينت التوصيفات والتقديرات والتحذيرات، لكن الجميع يقرّون بأن ما يُخشى منه قد وقع، ودون أن يقدّم طرف من هذه الأطراف، الترياق الشافي، وإنما يكتفي بالتوصيف محملا الآخر مسؤولية ما قد حصل.
الخبراء الاقتصاديون بدورهم، تنقص بعضهم بعض النزاهة، وباتوا يتخندقون مع فريق ضد آخر، لكن جميعهم يتفقون على أن التضخم المالي في البلاد تجاوز الحد المسموح (قارب 10 في المئة) مؤكّدين على أن تراجع سعر الدينار دفع البلاد إلى الدخول في عجز مالي منذ مدة، كما هو معلوم.. “صح النوم” أيها السياسيون والنقابيون والمتخاصمون.
أبرز الانتقادات التي تتوجه للحكومة تتمثل في أنها تقول ـ كثيرا ودون فعل ـ بالتركيز على محاربة المضاربة والاحتكار، بدل التركيز على دعم الاستهلاك.
◙ ما يعاب على السلطة الحالية، عدم قدرتها على التفاعل مع اللحظة الاقتصادية وذلك بسبب عدم تقديم الرئيس سعيد برنامجا اقتصاديا واضحا
الجهات النقابية تكثر من استخدام مفردات التخندق الخشبية، دون أن تقدم تفسيرات مقنعة للتونسيين بما يكفي لإدامة السلام الاجتماعي.. وهو أمر بات يحفظه التونسيون المتثائبون عن ظهر قلب، حتى أن الكثير منهم يعرفون ما يمكن أن يقوله قيادي نقابي قبل أن يظهر على البلاتوهات التلفزيونية.
أما عن الإسلاميين ومن تحالف أو تعاطف معهم، فمن السهل عليهم فتح نيرانهم على الرئيس قيس سعيد، وتقديمه كمسؤول أول ووحيد على الأزمة التي ورثوه إياها.
لا، هم لم يفعلوا ذلك فقط بل ذهبوا بعيدا نحو المطالبة بمساءلته في نوع مما يصفه البعض بالتبجح السياسي و”السقوط الأخلاقي”، إذ كيف لامرئ أن يفعل ما فعلته حركة النهضة وحلفاؤها بالبلاد والعباد ثم يظهر بمظهر النقي البريء المظلوم.
الوثائق والاستطلاعات والأرقام تثبت أن الرئيس سعيد لم يقصّر في حزمه وحربه للمضاربة والاحتكار في الأشهر القليلة الماضية، لكن “التركة” صعبة وثقيلة، ففي إطار مواصلة البرنامج المشترك لمكافحة الاحتكار والمضاربة بين هيئات المراقبة الاقتصادية بوزارة التجارة وتنمية الصادرات والمصالح الأمنية بمختلف الجهات التونسية، تم خلال الفترة الممتدة بين الثالث والعشرين من أغسطس والعشرين من سبتمبر 2022 رفع 7219 مخالفة اقتصادية توزعت بين مختلف المحافظات.
الأعراف تقول إن الفساد سهل ومتاح، أما محاربته فهي الأصعب والأخطر، ذلك أن المنتفعين من الفساد أقوى وأكثر نفوذا من المتضررين منه.
وفي هذا الصدد، يؤكد محللون سياسيون بأنه لا يمكن تحميل السلطة الحالية برئاسة سعيد لوحدها مسؤولية تفاقم خطورة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي وذلك لعدة اعتبارات، أولها أن تونس كانت ستصل إلى هذه النتيجة بحصول الخامس والعشرين من يوليو أو من دونه، نظرا لتشابك العوامل التي أدت إلى ذلك ومنها أزمة كورونا أو بعد ذلك الحرب الروسية – الأوكرانية التي أثرت أساسا على الحبوب وكذلك إمدادات النفط.
كما لا يمكن إنكار الأدوار التي تلعبها حركة النهضة لمزيد تأزيم الوضع، أولا لتمكنها طيلة عشرية من التغلغل في أجهزة الدولة وكذلك تجاهل منظومات الفساد ما أدى إلى تفاقم ظاهرتي الاحتكار والمضاربة. وثانيا لأدوار لعبتها خارجيا من خلال تحريك لوبياتها لمزيد عزل تونس اقتصاديا وسياسيا.
◙ الجهات النقابية تكثر من استخدام مفردات التخندق الخشبية، دون أن تقدم تفسيرات مقنعة للتونسيين بما يكفي لإدامة السلام الاجتماعي.. وهو أمر بات يحفظه التونسيون
لكن ما يعاب على السلطة الحالية، عدم قدرتها على التفاعل مع اللحظة الاقتصادية وذلك بسبب عدم تقديم الرئيس سعيد برنامجا اقتصاديا واضحا، حيث تظهر كل قراراته مرتجلة، إضافة إلى تمسكه بعزل نفسه عن المجتمع وعن المنظمات الوطنية الكبرى التي بإمكانها مساعدته على الخروج بالبلاد من هذا الواقع الذي ينذر بتفجر الوضع في الأشهر القليلة القادمة.
ويضيف منتقدو الرئيس سعيد من غير الإسلاميين، أن الرجل قد يتعمد أحيانا “تجاهل الكفاءات الاقتصادية التي بإمكانها مد يد المساعدة في العديد من الملفات المتعلقة بالأزمة الاقتصادية”. لكن المدافعين عن مشروع الرئيس الذي لا حزب ولا أيديولوجية خلفه، يقولون إن الإسلاميين يحاولون الانفراد بسعيد، مستغلين الحالة التي عليها البلاد.
والسؤال الأهم هو من صاحب المصلحة في هذه الأزمة التي تتخبط فيها البلاد؟
الجواب، حتما سيكون على نفس البساطة وهو: هم أولئك الذين يعملون لصالح أجندات أجنبية لا تنتفع ولا تستفيد من وحدة البلاد.. بل إنها لا تؤمن بوحدة البلاد على مستوى الثقافة والتاريخ والجغرافيا.
صفوة القول إنّ الأطراف المتراشقة بالاتهامات في الأزمة التونسية تضيع الوقت عليها وعلى جميع البلاد، لأن الطرف المستفيد هو ذاك الذي لا يؤمن بوحدة البلاد أصلا.
المطلوب من جميع الأطراف الوطنية اليوم في تونس، هو أن يسموا على جراحهم ويتذكروا أنّ من سبب لهم تلك الكدمات هو اليوم يجرح الجراح ويتسلى بتبادل الاتهامات.