تونس بلدي التاني

الفنان هو من يغني بكل جوارحه فيبدع في أغانيه، ويضيف من إحساسه لأغاني الآخرين كما نسمع وردة الجزائرية تغني للمطربة التونسية صليحة.
الأربعاء 2023/08/16
اليوم صار الجمهور يغني والمطرب يسمع

حين كان الكبار من الفنانين يحلّون ضيوفا على المهرجانات التونسية كانوا يأتون وقلوبهم مفعمة بالحب لهذا البلد وشعبه الذي كان أيضا يحسن الإصغاء وفقا للحكمة التي تقول إن الله خلق أذنين وفما واحدا لنسمع أكثر مما نتكلم.

كانت الأناقة سيدة الحفلات فيما يشبه القداس الليلي، التونسيون يلبسون أفضل ما لديهم، ربما لأن هذه الحفلات كانت قليلة، والمناسبة لا تتكرر، حتى أنني أذكر معلمي في الابتدائي قرر أن يحضر حفل أم كلثوم فباع سيارته البيجو التي كنا نجري وراءها كما لو أنها طبق طائر حط من كوكب آخر.

وكان كل الفنانين يأتون ببرنامج غنائي جاهز يعرف ماذا سيغني ونعرف منذ البداية ماذا سنسمع فلا تأتأة ولا اعتذار ولا انتظار، وبعضهم يعدّ أغنية كهدية للصيف والبلد والمناسبة، مازلنا نذكر أغنية فريد الأطرش “تونس أيا خضراء يا حارق الأكباد” وغيره كثر.

اليوم انقلبت حكمة الأذنين الاثنتين والفم الواحد، فصار الجمهور يغني والمطرب يسمع، هذا “الموديل” الجديد من المغنين لا يحب أن يتعب، أو ربما لا يريد أن تنكشف حقيقة صوته بعد أن سمع مريدوه أغانيه في أستوديوهات غربلة الأصوات من النشاز.. ينتصب على المسرح، يرحب بجمهوره الحبيب على جيبه، ثم يطلب منه إنارة لمبات الهواتف ويوجه له الميكروفون.. يبدو أن الغناء عدوى تنتشر بسرعة بين الناس إلى أن ينتهي الحفل.

بعد ذلك يخرج مطربنا الجديد إلى الصحافة ليقول تلك الجملة الشهيرة “تونس بلدي التاني”، ومثله يقول بعض المطربين التونسيين المهاجرين أيضا، وهي مجاملة سمجة قُدت في شهر أبريل لتكون صالحة لكل زمان وكل البلدان يقولها كل من هبّ ودب.

آخرون خرجوا من الطابور الذي يلبس طاقية “تونس بلدي التاني” ليدخلوا من باب التراث التونسي الذي أصبح مثل الساحة الجرداء يلعب فيها أولاد الحي والغرباء الكرة والاستفزاز، فالمغنون من أهل البلد يقولون إنهم يهذبون التراث وهم الذين صعدوا على المسارح بلا زاد، وضيوفنا من العرب يتقربون به إلى الجماهير أو يختصرون به زمن الحفلة لأنهم يعرفون أن التونسيين يحفظون تراثهم وما على المغني أو المطرب (اختلطت عندي الأسماء والثابت أن قليلا منهم يرتقي إلى مرتبة فنان) إلا أن يبدأ الأغنية ليكملها الحضور مع الرقص كبهارات حتى مطلع الفجر.

الفنان هو من يغني بكل جوارحه فيبدع في أغانيه، ويضيف من إحساسه لأغاني الآخرين كما نسمع وردة الجزائرية تغني للمطربة التونسية صليحة.

الحقيقة أن من يعتبرون تونس في مقام بلدهم (التاني) يحترمون مسارحها العريقة وجمهورها، يعودون إليها بجديدهم متى توفر لا أن يحزموا أمتعتهم في كل صيف كحاصدي القمح في سهول مطمورة روما القديمة.

18