تمرد فردي أم وعي اجتماعي

حين اخترت عنوان مقالتي هذه، ووضعته بصيغة سؤال، فقد كنت أفكر بكل المواقف الفكرية التي تستوعب المتغيرات وتعبر عنها، في القول والممارسة.
ومن الطبيعي إن المتغيرات، جميع المتغيرات، مهما كانت طبيعتها وطبيعة القوى التي تعبر عنها وتلتزم بها، تثير اختلافا أو جدلا أو صراعا، وهذا ما يؤكده التاريخ الإنساني منذ طفولته حتى يومنا هذا، حيث شهد هذا التاريخ، اختلافا وجدلا وصراعا في جميع المتغيرات وفي جميع المراحل الزمنية، سواء كان المتغير دينيا أم اجتماعيا أم ثقافيا، وهنا سأحاول أن أتوقف عند ظاهرة شعراء المدن في تاريخنا الثقافي العربي، وأختار من بينهم أبونواس، وما يسوِّغ اختياري هذا، كونه من أعظم شعراء العربية في جميع العصور، وكان ولا يزال الأكثر إثارة للاختلاف والجدل، ولأن تاريخه وإنجازه الشعري اقترن ببغداد العباسية في أوج كينونتها المدينية وتفتحها الحضاري، فكانت كما كتبت ذلك في عدد من المناسبات، أشبه بباريس المعاصرة، في انفتاحها الاجتماعي ونضجها الحضاري، بل لقد قرأت أخيرا، من يشبهها بنيويورك ، حيث تقول الكاتبة والأكاديمية الأردنية بلقيس الكركي، كثيرا ما شبهت بغداد في القرن الثالث الهجري، بنيويورك المعاصرة من قبل مستشرقين على وجه الخصوص.
وتشير إلى المجتمع البغدادي أيامذاك، وتصفه بأنه، مجتمع متفجر في الفكر والإبداع رغم واقع النزاع السياسي والاستبداد أحيانا كثيرة. وأظن أن مجرد العودة إلى ما شهدته الحياة الفكرية من خلال نشاطات بيت الحكمة في الترجمة ومن ثم في الفكر والفلسفة والحوار والتعدد، والعودة إلى ما كتبه الجاحظ وأبوحيان، أو ما تخيله من كتب ألف ليلة وليلة من انفتاح وثراء في الحياة البغدادية، وقبل هذا وذاك ما اتسم به فكر فقيهها الكبير النعمان بن ثابت من غنى وتجدد، ترينا بوضوح الواقع المديني الحضاري للمجتمع البغدادي الذي عاش فيه شاعر مثقف وموهوب مثل الحسن بن هانئ.
الذين اعترضوا على الكثير من شعر أبونواس، بسبب ما كان يفصح فيه عن حقيقة زمنه ومجتمعه، كأنهم يريدون منه أن يفصح في شعره عن زمن غير زمنه
وإذا كانت ثقافته الأدبية يختصرها قوله “ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب، فما ظنكم بالرجال” وكان من أوائل معلميه خلف الأحمر، وإن ثقافته لم تقتصر على الأدب، بل كان على معرفة عميقة بالفقه والحديث والتفسير، وبأحكام القرآن، حيث قال عنه ابن المعتز “كان أبونواس عالما فقيها عارفا بالأحكام والفتيا، بصيرا بالاختلاف، صاحب حفظ ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف محكم القرآن ومتشابهه وناسخه ومنسوخه”.
إن شاعرا عاش في مجتمع كالمجتمع البغدادي، في تلك المرحلة، ونال من المعرفة بجميع مصادرها وفروعها حظا كبيرا، هل كان عليه أن يكرر ما سبق أن رواه من شعر شعراء سبقوه ومنهم من عاش في البوادي والقرى والمدن أحادية التكوين الاجتماعي والفكري، ولم تتجاوز عدتهم المعرفية ما سمعوا من شعر من سبقهم وما استمعوا إليه من روايات وحكايات.
إن الذين اعترضوا على الكثير من شعر أبونواس، بسبب ما كان يفصح فيه عن حقيقة زمنه ومجتمعه، كأنهم يريدون منه أن يفصح في شعره عن زمن غير زمنه ومجتمع غير مجتمعه.
لذا أستطيع القول، إن كل ما أفصح عنه شعره، لم يعبر عن تمرده الفردي فقط، وإنما وبفعل إدراكه طبيعة زمنه والمجتمع الذي عاش فيه أيضا، وبموهبته الاستثنائية وثقافته الموسوعية، استطاع أن يعبر عن الواقع الذي عاشه، بوعي المثقف وجرأة المبدع.