تلوث ضوئي

تبدأ مصطلحات هذا العصر بالتأثير فيك وأنت تقرأ وتشاهد سطوتها وانتشارها بين الناس وكيف تصبح مع الوقت مسلّمات لا يتصوّر أحدٌ إمكانية الجدل فيها أو حتى مناقشتها.
من تلك المصطلحات الخطرة “التلوّث الضوئي” الذي يدفعك مباشرة إلى الحائط، فمن غير المعقول بعد كل هذ البحث الحثيث للإنسان عن بصيص ضوء وخيط أمل، أن يفاجأ بتلوث ضوئي، أو فيضان ضوئي أو إلخ. دعنا نرَ.
يقول العلماء إن هذا النوع من التلوث ينجم عن “الاستخدام المفرط وغير المرغوب فيه للضوء”. حتى الآن جيد. لكن انظر، يقال أيضًا إن هذا “التلوث شكل من أشكال الطاقة الضائعة التي يُمكن أن تسبب العديد من التأثيرات الصحية والبيئية الضارة”.
لندع الفيزياء جانبًا، فالهدف أبعد من ذلك بكثير. لا شك أنك تبتسم الآن عزيزي القارئ، وأنت تفكّر في حجم التلوّث الناشئ خلال السنين الماضية عن حرية الضوء، الضوء بمعناه الآخر، أي الكشف عن المعتّم عليه، والمسكوت عنه، والمكتوم وما كنا نسميه مطلع الألفية “الخافي أعظم”.
صحيح، الخافي دومًا أعظم، لكن ما الذي فعله الضوء بذلك الخافي، كشف في الواقع عن حقيقة مريرة تتمثّل بعجز الإنسان عن مواجهة ما كان خافيًا. وماذا بعد؟ نشأ التلوّث. فالاستهلاك لم يكن صحيحًا. والمعرفة تبعثرت وخلقت الشرور بدل الخيرات.
الفلكيون يحذّروننا من أن ذلك التلوث الضوئي الخبيث يعطّل عمل مراقبي السماء في الليل، باعتباره يقلّل من إمكانية رؤية النجوم والأجرام.
وما نفع الرؤية والأمر كما قال تميم بن أُبَيّ بن مقبل “ما أطيبَ العيش لو أن الفتى حجر، تَنْبُو الحَوادثُ عَنهُ وهوَ مَلمُومُ”. إنها لا تنبو، بل تأتيك من كل جانب، وتريدك أن تتدرّب على الرؤية وعدم القيام بأي شيء، تبقى “ملمومًا” يعني. ولعلها تذكّر بالكلمة العامية المصرية “إتلَمْ” التي تقال عادة للحشريين الذين يحاولون التدخل في ما لا يعنيهم.
فرط الرؤية مصيبة، والتعامي عما لا تقبله النفس بالمقابل مهمة شاقة، ولا ندري كيف يتقنها البعض، فيصبح الأمر عنده سيان، تفاعل أم لم يتفاعل.
إذا قرأت عليك الآن عينة من عناوين الصحف، ستجد أنك في حرج شديد، اسمع “شكل قدم الطفل قد يشير إلى خطر على صحته”، و”5 عادات خاطئة عند الفطور تدمّر مناعة الجسم”، أما أطرفها فهو “مهندس يعثر على خريطة مماثلة لشكل لبنان على سطح المريخ”. ماذا يعني هذا؟ أن اللبنانيين القدامى سافروا إلى المريخ قبل آلاف السنين ورسموا خارطة للبنان، قبل سايكس بيكو حتى، تخليدًا لذكرى بلدهم الأصلي؟ ماذا ستفعل أمام هكذا معلومة؟
ألا ما أطيب العتمة وسط هذا التلوّث الساخر.