تلفيق الغرافيتي تخريب للمكان

منذ انتشاره من شوارع أوروبا إلى بقية أنحاء العالم والغرافيتي يثير جدلا لا يتوقف، خاصة في صفوف الفنانين، الذين ينقسمون حوله بين من يعتبره فنا قائم الذات له خصوصياته، وبين من يراه مجرد تعبيرات ومحاكاة لا ترتقي إلى مستوى الفنيّ. لكن ورغم ذلك فرض هذا النمط من رسومات الشوارع نفسه، بينما يبقى النقاش دائرا حول اعتدائه أحيانا على تاريخية الأمكنة أو رمزيتها.
نعرف أن الغرافيتي (Graffiti) نمط من أنماط الرسم، أداته بخاخ، وحديثا ريشة، بحسب ما يراه الفنان بمفرده، مناسبا للموضوع (thème) أو فكرة المادة التي يريد الجمهور أن يراها.
ونعلم أيضا أن هذا النمط بعد أن اكتسح شوارع أوروبا، ومنها انتشر إلى بقية دول العالم، لم يتخذ أرضية واحدة، بل اتجه إلى كل زاوية من أيّ شارع أو مبنى فهي أرضية للرسومات، اللهم إلا الأثري والتاريخي ذو القيمة بعينه.
وكي لا نشطح بمخيلتنا بعيدا، يتخذ الغرافيتي من جدران أبنية المدن الحديثة وجسورها، ووسائل النقل العامة فيها ملعبا لرساميه، لكي يعبّروا من خلال جداريّات عن فكرة سياسية أو اجتماعية أو صحية، أو حتى لطرح مواضيع كالهوية والانتماء والعنصرية الثقافية والتمييز العرقي والحريات وغيرها.
ويفترض رسّام الغرافيتي أن الرسائل التي يطرحها على الجدران أنها ذات علاقة بتمكين المشاهدين (Spectators) المشاة غالبا، وحثّهم على فعلٍ يتجاوز من خلاله قضية رأي عام محلية أو عالمية.
تخريب المدن
منذ آلاف السنين، أثار الغرافيتي مجموعة من الأسئلة التي كان لا بدّ لها وأن تتكرر اليوم، خصوصا تلك التي تروي العلاقة بين الغرافيتي والسلطة، والعلاقة بين الغرافيتي وروح المدينة، وما إذا كان هذا الفعل فنّا أم تخريبا.
بالعودة إلى تاريخ الغرافيتي، فإن الرومان القدامى، استخدموا الجدران العامة لنقل رسائل عبر النحت على جدران الأماكن العامة، في محاولة منهم للإعلان عن فوز الأقوياء من المصارعين (Gladiators) والاحتفاء بأمجاد الأباطرة وغيرهم.
أما في الحضارة الهندية، فقد كان الرسم على الجدران مسخّرا لرسم التعويذات السحرية (Magic Spells)، التي يُعتقد أنها تقي المدن من الشرور والكوارث الطبيعية، وكان يشارك فيه أيّ شخص من المجتمع حينها، إذ لم يكن مقتصرا على النخبة. وفي الحضارة اليونانية، كان الغرافيتي يعبّر عن الحب وتصوير العلاقات بين العاشقين ضمن جداريات تجسد العلاقة على أنها “إلهية”، بين “الإله العاشق” و”الفتاة الدنيوية المعشوقة”، بالإضافة إلى رموز تحوي دلالات وشعارات سياسية وعسكرية مثل تلك التي تشير إلى كل إله حامٍ للبلاد، أو رموز لكل إله، كآلهة الحرب والبحر والشمس وغيرها.
عدّ بلوتارك، الناقد والفيلسوف اليوناني، أن الغرافيتي فنّ عبثي لا طائل منه. وجاءت هذه الفكرة بعد أن اجتاح غزاة “الوندال” (Vandals) أوروبا في القرن الخامس الميلادي، وعاثوا فيها فسادا؛ ليتم لاحقا نحت مصطلح “فنداليزم”(Vandalism) الذي يعني التخريب والتشويه، كصرخة في وجه تشويه الأبنية والممتلكات بالرسومات والألوان أثناء الثورة الفرنسية، وبالتالي فقد أصبح الغرافيتي، في صورة رسم الشارع، من ضروب التخريب التي طالت معالم المدن الفرنسية.
رسومات الغرافيتي التي انتشرت في فرنسا حينها لم تحمل أيّ هدف أو أيّ مغزى، سياسيا كان أو ثقافيا أو اجتماعيا، بل كان استفزازيا للفرنسيين أنفسهم، ومن هنا جاءت فكرة توسيمه على أنه تشويه (Vandalization) لصورة الأبنية التاريخية والأثرية الفرنسية.
الغرافيتي يتخذ من جدران أبنية المدن الحديثة وجسورها ووسائل النقل العامة فيها، ملعبا لرساميه يطرحون فيه أفكارهم
حديثا، تطور الغرافيتي ليشمل رسائل توعية، ضمن ما يمكن تسميته الثقافة البصرية الثانوية (Visual Subculture)، التي ترسم خيوط العلاقات بين مستوى العلاقات الاجتماعية داخل المدينة ومستوى الأيديولوجيا التي يحاول فنان الغرافيتي أن يظهره عبر الرسومات.
يطرح الغرافيتي سؤال الملكية والحق في استخدام المكان، لكونه يفتح الباب أمام الترويج لمؤسسة أو منظمة، أو حتى اسم شخص في حد ذاته، لكونه يمثل اعتداء على هذه الملكية، ولا يحق استخدامه لأيّ غرض. ما يقوم به بانكسي، وغيره من رسامي الغرافيتي، ليس قانونيا، ولا يمتثلون في الترويج لأفكارهم لأيّ قانون يجرّم الغرافيتي.
في بريطانيا، تندرج العقوبات الخاصة بالغرافيتي ضمن القانون الجنائي تحت البند الأول من مادة الضرر الجنائي رقم 1971، والتي تقضي بالسّجن لمدة أقصاها 10 سنوات في حال تخريب أو تشويه أيّ من الممتلكات العامة أو ممتلكات الغير.
الوقوف ضد التشويه دفع فناني الغرافيتي إلى التخفّي خوفا من الملاحقة القانونية أو المجتمعية، سواء بالعمل بعيدا عن الرقابة أو الإفلات عبر التوقيع باسم وهمي، كما يفعل الظاهرة بانكسي (Banksy)، عرّاب الغرافيتي في الوقت الحاضر، لكي يتجنب الملاحقة الأمنية والغرامات، أو حتى التوبيخ من المجتمع المحلي أو الدولي؛ حتى وإن كان فنّه يصل إلى الملايين حول العالم، ومنهم فقط حوالي 11 مليونا على إنستغرام وحده.
بالتالي، فعلى الرغم من أن المحتوى الخاص بالغرافيتي هادف ومُلهم، إلا أن العقوبة واحدة طالما أنه لا تُمكن ترجمته وتنظيمه ضمن مؤسسات أعمال الفن التقليدي؛ الأمر الذي دفع بثلّة قليلة فقط من الرسامين إلى طرح أعمالهم تحت قيود شُرطية شديدة.
الفضاء العام والخاص
منذ ستينات القرن الماضي، ظهرت موجات جديدة للغرافيتي قائمة على استخدام البخاخات (Spray) والألوان شديدة الحدّة (Bold) لتشكل في أساسها رسائل زمانية ومكانية، تعتمد في أغلبها على رسوم أشبه بالكارتونية.
ويعد الكثيرون من رسامي الغرافيتي أن هذا النمط يمثّل إعادة إنتاج الصورة أو المشهد العام الحضري (Urban Space) بطريقة تجعل من المشاهد يبتعد عن الصورة التقليدية التي زرعت برأسه عن المكان؛ إلا أن الصورة التي يتم إنتاج المكان فيها قد لا تروق لبصر المتفرّج. من جدران الأبنية العالية في العواصم العالمية، إلى أسوار الحدائق العامة، إلى إشارات المرور، إلى جدران البيوت الخاصة (وكلها لوحات بانكسي)، كلها أماكن يرى فيها رسام الغرافيتي مجالا لإبداء رأيه، ومسرحا لإثارة فكرة في مخيلته.
يخرج الغرافيتي هنا من وصفه أداة لتغيير المكان أو المجال العام (Spectacle) وإعادة إنتاجه، إلى إطار التفريغ الذاتي الذي قد لا يمثل إلا تصور الرسام أو تعبيرا لأعضاء فريقه في حد أنفسهم. تقودنا سيكولوجيا التعامل مع العمومي على أنه خصوصي إلى الحديث عن السعي وراء الشهرة، خصوصا إذا كانت في سياق اجتماعي أو ثقافي أو حتى سياسي مضطرب، حيث يسعى رسامو الغرافيتي إلى التصرف في المجال العام وكأنه مرسم خاص، دون الاكتراث برأي العامة.
ماذا يحدث في دمشق؟
يحتكم الغرافيتي إلى الذائقة الفنية لدى الجمهور، بمعنى أن الجمهور الذي يرى من المعمار أساسا قائما لأيّ حضارة أو مشهد جمالي، لا يرضى بأيّ رسم أو إضافة على البناء.
يأتي هنا رأي المهندسين المعماريين في تقييم هذا النمط من الرسم من ناحية التفريق بين القدرة على استدامة البناء ومتانته، وبين المظهر (Appearance) الحسن الذي تبدو عليه المدينة بعد عمل الغرافيتي، إذا ما قلنا إن النسق المعماري المؤسس عليه البناء قد يشجع الرسامين على الاعتداء على المكان وصنع الغرافيتي، سواء من ناحية المساحة الفارغة أو المكان أو الزمان.
في ديسمبر 2020 الماضي، باشر غاليري الفنان السوري مصطفى علي، بأعمال رسم على جدران “حارة التيامنة” الواقعة في مدينة دمشق القديمة، ضمن ملتقى “فن الطريق 2” (Street Art 2) ، وإن كانت حارة التيامنة لا تقع داخل السور، بحسب التصنيفات الدمشقية المحلية – خارج السور وداخل السور – ولا تندرج ضمن قائمة مواقع التراث العالمي في حسابات اليونسكو، إذا ما قلنا إن الجزء القديم الذي أنشئ منذ 4300 قبل الميلاد، هو الجزء المصنف ضمن عشر مدن قديمة مأهولة حتى اليوم؛ إلا أن وجود هذه الحارة على مشارف سور قلعة دمشق من ناحية “باب مصلى” الأثري، وقدمها بالأساس يضيفان إليها طابعا أثريا لا يمكن تجاهله، أو التعدي عليه.
ووجود هذه الحارة خارج سور قلعة دمشق، لا يقلل من أثريّتها، خصوصا وأن حارة التيامنة الدمشقية – مثلها مثل حي ساروجا والقصاع والعمارة والشاغور وغيرها – تعود معالمها إلى عام 12 ميلادي. أي أن حوالي 2000 عام مدة كفيلة بأن تخلق قداسة للمكان في ظل وجود مجموعة من الكنائس والمساجد والبيوت الأثرية.
أثار المشروع حفيظة أهالي الحيّ خصوصا، والدمشقيين عموما، لاسيما وأن الرسوم التي تم إظهارها في بداية المشروع لا تعكس أيّ طابع فني، ولا يمكن تسميتها حتى بـ”فن شارع” إذا ما دققنا في المفهوم المبني على القدرة على خلق تواصل نصّي وبصري بين الألوان والأشكال، والمتفرّج.
أهمّ ما يمكن أن نقوله هو إن القائمين على المشروع غفلوا عن فكرة عدم خضوع فن الشارع لرأي لجان التحكيم التقليدية التي تقيّم أيّ عمل فنّي مفرد أو جماعي. لا يحتكم فن الشارع إلى معايير التقييم التي تقرّها المؤسسة الفنية، أي إنه ليس مؤسساتيا من ناحية الدعم الفني والتقييم، ولا توجد مؤسسة بمعنى المؤسسة تتبنى هذا الفن وتحكم عليه. استنادا إلى قول لاشمان في الحديث عن الغرافيتي وفن الشارع، فإن المهتمين بفن الشارع طوّروا معايير كيفية (Qualitative Conception Style) خاصة بهم، تمكنهم من تمييز فن الشراع عن غيره، ضمن شروط جمالية (Aesthetic) معينة يتم تطويرها فقط ضمن جوّهم العام.
ما يروّجه مصطفى علي في مقابلاته، ضاربا عرض الحائط بالرأي العام، أن أفراد الجمهور ليسوا لجانا تحكيمية، يتنافى جملة وتفصيلا مع ما جاء في أدبيات الغرافيتي ودراسات فن الشارع، خصوصا وأن المشروع الذي يقوم به برفقة مجموعة من الرسامين، ونركّز على أنهم ليسوا فناني شارع، ومجموعة من النحّاتين، يستهدف المشاة وأهالي حارة التيامنة وزوّارها.
ما يمكن إخضاعه للجان التحكيم هو المعارض الفنية واللوحات والمنحوتات، الفردية أو الجماعية على حد سواء، ضمن معايير المدارس الفنية التقليدية، والمؤسسات الفنية ودور العرض العالمية. يعكس رد فعل مصطفى علي والمدافعين عن المشروع، وإن كان في مراحله الأولى، الفراغ الحاصل بين الجمهور والمشروع، وعلى مستوى أعمق، فراغ روح الشارع من أيّ قدرة على تغيير واقع يتم فرضه من قبل صاحب المشروع ومختار حارة التيامنة وغيرهما.
أما عن قدرة الفريق على الاستمرار، فإن اختيار أيّ شارع أو أسوار حديثة، سواء لمدارس أو منشآت حكومية أو إدارات ومؤسسات مدنية – غير بيوت ومحلات أهالي الحي – كان كفيلا بدرء موجة الغضب الشعبي الحاصل في دمشق وعلى منصات التواصل الاجتماعي بشكل عام.
تفادي الصدام
كان من الممكن تفادي الصدام مع الجمهور، الدمشقي غالبا ومن ثم جمهور صفحات التواصل الاجتماعي، عبر الترويج لفكرة المشروع قبل البدء في تنفيذه على أرض الواقع وفرضه على أعين الجمهور، في خطوة أشبه باحتكار الجدران وإن كانت “آيلة للسقوط”، وتوظيفها لخدمة غاليري معين.
وبحكم الإرث الدمشقي ذي الصلة بالموزاييك والفسيفساء، فإن فكرة إعادة إنتاج المكان عبر تصميم فسيفساء ومنمنمات أقرب إلى أعين الدمشقيين يوفّر كثيرا من الجدل والإشكاليات. أما عن نوعية المواد المستخدمة، فإن الصور التي انتشرت كانت الألوان فيها أقرب إلى الباهتة والخفيفة التي لا تغطي المساحة المكانية بشكل فنّي، بينما فن الشارع يستلزم استخدام ألوان ذات حدة عالية. إن أهم ما يمكن ابتداعه في هذه الحال هو رسم لوحة واحدة على عرض الجدار الواحد، لا عدة لوحات؛ وفي ذلك فوضى بصرية لدى المتفرجين.
وبالإضافة إلى هذا، يمكن الاستعاضة بجداريات من الخيش (Canvas)، على أنها مستخدمة في فن الشارع بحيث تضمن سلامة الجدران في حد ذاتها، وسلامة الذوق البصري لدى المتفرجين. يمكن القول إن استدامة لوحات الشارع تتطلب جهدا عاليا من ناحية استخدام الموضوع والفكرة والرسالة، ما تفتقر إليه رسومات المشروع في محيط أقدم مدينة مأهولة في التاريخ.