تقشف كأسنان المشط
وزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك يوحي لك بأنه للتو أنهى الثانوية العامة وسيلتحق بالجامعة قريبا. ثمة براءة طفولية في وجهه. ولد لأبوين من أصول هندية، إذ هاجر أجداده إلى كينيا وتنزانيا في عهد الحكم الإمبراطوري البريطاني، ثم انتقل أبوه وأمه إلى بريطانيا. يعطيك الإيحاء أنه “ابن خير” ومتعلم. أبوه طبيب وأمه صيدلانية، وهو خريج كلية وينشستر العريقة وكلية لينكولن (اللفظ الصحيح بالإنجليزية لينكن) في جامعة أوكسفورد وحصل على الماجستير من مدرسة الأعمال في جامعة ستانفورد، واحدة من صفوة الصفوات في جامعات الولايات المتحدة بعد أن حصل على منحة فولبرايت المتميزة. بخلفيته هذه تزوج زميلته في ستانفورد أكشاتا مورتي، ابنة ملياردير هندي. زواج مريح ويليق بالمقام. لكنه زواج سيمتحن سوناك أخلاقيا قبل أن يمتحنه قانونيا أو سياسيا.
الحكاية، أن ثمة ثغرة في القانون البريطاني تسمح للمواطن بتسجيل نفسه على أنه غير مقيم في البلد، وتجنبه دفع ضرائب على ثروته. يمكن للبريطاني أن يتواجد في المملكة المتحدة لفترة محدودة سنويا، أو لا يتخذ قرارات إدارية أو مالية في شركة مسجلة في الخارج. إذا قام بتحويل جزء من العائدات إلى بريطانيا، فإنه يدفع عليها ضريبة. لا شائبة قانونية على كل هذا. لكن كل الشوائب الأخلاقية تحوم حول المسألة.
وزير الخزانة في وجه المدفع. هو من يقرر الميزانية وتفاصيلها ويحدد الضرائب الفردية وعلى الشركات. وضعية سوناك الذي تسلم حقيبة الوزارة في وسط أزمتيْ بريكست وكوفيد جعلته اليوم يحاول أن يجد معادلة تعيد تصحيح وضع الميزانية البريطانية بعد سنوات من التخلخل الشديد. لإنقاذ البلد، من الضروري يا أيها البريطاني أن تدفع ضرائب أكثر. ماذا عن زوجة الوزير الذي يطلب من الناس التقشف ودفع المزيد من الضرائب؟ إلى حد نهاية الأسبوع الماضي كانت معفية مما يطالب به زوجها الناس. قررت الآن أن تدفع الضرائب أسوة بالآخرين، لكن العاصفة السياسية كانت قد انطلقت بعد تسريب وضعها الضريبي للإعلام. قانونيا لم ترتكب أية مخالفة. معنويا ارتكبت، هي وزوجها، معصية كبرى. معصية كافية لأن يطلب هو نفسه من مستشار الحكومة للشؤون الأخلاقية مراجعة ما إذا كان قد امتثل للقواعد الوزارية في هذا الشأن. سوناك وزير ناجح بمعايير التعامل مع الأزمات، ودار الكثير من الحديث عن أنه المرشح الأوفر حظا لخلافة رئيس الحكومة بوريس جونسون، ملك الأكاذيب والفضائح. قد تعرقل هذه الفضيحة المعنوية مستقبله السياسي. البريطانيون ينسون الكثير من سقطات سياسييهم بعد فترة قصيرة، إلا ما تعلق منها بجيوبهم. خذ رأسي ولا تأخذ ديناري.
الموضوع المالي حساس. يحب الناس أن يتساووا كأسنان المشط، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالفلوس. هذا لا يحدث عادة، لكن بعض الإيهام والدعاية يمكن أن يخفي الكثير من تباين تلك المساواة لأسنان المشط. في بريطانيا المقياس هو ملفك الضريبي. في بلادنا الوضع يختلف. الزعماء والسياسيون لا يجدون حرجا في أن يكونوا غير متساوين مع مواطنيهم أو رعيتهم. الناس درجات. الصمت عن عدم المساواة لا يجلب أية مشاكل. المفارقة تبرز حين يتم الحديث عن عدم المساواة هذه والدفاع عنها.
كنا للتو قد وصلنا إلى بريطانيا للدراسة حين دعتنا الملحقية الثقافية إلى لقاء مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي العراقي. الهدف هو عرض مشاكل الطلبة على الوزير. الوزير كان قد انتقل مؤخرا من وزارة العدل إلى وزارة التعليم، ويحمل معه خلفية التقشف المصاحب لنهايات الحرب العراقية – الإيرانية. تذمر بعض الطلبة من بؤس المنحة وأنها لا تكفي للمعيشة. رد الوزير بأن البلد للتو خرج من حرب مدمرة وأن التقشف طبيعي. ضرب مثالا على الفيتناميين الذين خرجوا من حربهم الطويلة مع الولايات المتحدة وكانوا يكتفون بأكل الأرز وشد الحزام. مقارنة صحيحة لولا أن أحد الطلبة كان جريئا بما يكفي للرد على الوزير: كل الفيتناميين يأكلون الأرز فقط، وليس بعضهم يأكل الأرز والآخر يأكل اللحم. احمر وجه الوزير العراقي ولم يجد جوابا.
ننتظر رد سوناك، لعله يقوله دون حمرة الخجل على وجهه.
