تفكك المنظومة الأسرية من أسباب جنوح الأبناء إلى العنف

يشير خبراء علم الاجتماع إلى أن ممارسة العنف داخل الأسرة من المفارقات التي أصبحت تسم المجتمع التونسي، ذلك أن العديد من الآباء يعرّضون أبناءهم للعنف سواء كان ماديا أو معنويا دون وعي منهم. كما أن بعض الأمهات يمكن أن يكنّ سببا في إهمال أطفالهن، ما يدفعهم بشكل غير إرادي إلى الانحراف.
تونس - تتالت في الآونة الأخيرة أحداث عنف ارتكبها الأطفال ضد الأساتذة وأشهرها اعتداء طالب على أستاذه بسكين وساطور، ما تطلب إجراء سبع عمليات جراحية دقيقة إحداها على الوجه.
وقال الأستاذ في علم الاجتماع بلعيد أولاد عبدالله، إن انتشار العنف المقترف من قبل التلاميذ ضد الإطار التربوي تتداخل فيه عدة عوامل خارجية وأخرى صلب منظومة الأسرة.
وأشار أولاد عبدالله في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، إلى أن بعض الأسر ساهمت بشكل لاإرادي في انحراف أبنائها وانزلاقهم نحو ممارسة العنف في محيطهم، مبرزا الحاجة إلى إصلاح ومراجعة كل الخطط والبرامج ذات العلاقة بالأسرة من أجل خلق ناشئة متأقلمة مع محيطها وغير منحرفة.
وأوضح أن هذا الطرح الذي يحمّل العائلة كافة المسؤولية في ما يتعلق بالسلوكيات العنيفة للأبناء، هو مقاربة تحليلية بسيطة لا تأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل المتداخلة في ظاهرة العنف.
وذكر أولاد عبدالله بأن مصالح مندوب حماية الطفولة سجلت في سنة 2019 أكثر من 17500 إشعار تتعلق باعتداءات وتهديدات ضد الأطفال جلها داخل الأسر، حسب تقرير صادر في يونيو 2020 عن وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن حول واقع الطفولة والتهديدات المسلطة ضدها.
وبين أن عدة عوامل تسببت في فقدان الأسرة التونسية لدورها التقليدي التربوي، وتحولها إلى مصدر تهديد للأبناء، من بينها عوامل داخلية عمقت الهوة بين الأولياء والأبناء، على غرار عدم التدرب على مؤسسة الزواج قبل الارتباط، إلى جانب عوامل خارجية ومنها تراجع المقدرة الشرائية للعائلات وتوقيت نظام العمل بالحصتين كامل اليوم الذي أضر بمصلحة الأطفال.
وأفاد المختص في المقابل، أن خطر الإخلال بتربية الأطفال لم يعد مرتبطا بالأسرة وحدها بل يساهم فيه الشارع والعائلات الحاضنة بمختلف أنواعها، فضلا عن استعمال الأجهزة الرقمية التي تتيح مشاهدة الأطفال لمقاطع فيديو تبث الفوضى وتشجع على العنف دون مراقبة.
وانتقد أولاد عبدالله غياب مؤسسات الإنصات المختصة لفائدة الطفولة، وعجز المؤسسات التربوية عن تأطير منظوريها، معتبرا أنها لم تتمكن من مواكبة التغيرات مما أدى إلى تحولها إلى مؤسسات “غير جاذبة”، حسب توصيفه.
وقال المختص في علم النفس التونسي أحمد الأبيض إن الطفل عندما يتعرض إلى الإهانة والعنف من قبل أفراد أسرته يصبح إما خاضعا أو عنيفا يعمد إلى إيلام الآخرين. وأضاف أنه ليس شرطا أن يكون الآباء هم من يساهمون في أن يكون الطفل عنيفا وإنما تلعب نماذج الدراما السينمائية والتلفزية دورا في ذلك، فتصوير العنيف على أنه بطل يجعل المراهقين خصوصا يتماهون معه. هذا إضافة إلى أن عدم النجاح في الدراسة أو في الحياة الاجتماعية يجعل الطفل يميل إلى التعويض عن طريق رسم نموذج يجمع صفات الفتوة.
ويعرف خبراء علم الاجتماع العنف على أنه سلوك أو فعل يصدر عن طرف قد يكون فردا أو جماعة يحدث أضرارا جسدية أو معنوية ونفسية ويكون باللسان أو بالجسد أو بواسطة أداة. ويشيرون إلى أنه دليل على عدم التوازن النفسي، سواء نتج عن الإثارة أو الاستفزاز أو التسرع أو ضعف قوة الحجة، وهو رد فعل غير سوي له عواقب جسدية ونفسية شديدة على المعنَّفِ.
ولفت محمد جلال بن سعد أخصائي علم النفس التربوي ورئيس الجمعية التونسية للتعليم الذكي في دراسة بعنوان “ظاهرة العنف المدرسي أسبابها وأنواعها”، إلى أن العنف المدرسي مظهر من مظاهر العنف وصورة من صوره المتعددة، وهو عبارة عن ممارسات نفسية أو بدنية أو مادية يمارسها أحد أطراف المنظومة التربوية وتؤدي إلى إلحاق الضرر بالمتعلم، أو بالمعلم أو بالمدرسة ذاتها.
وأضاف أنه “إذا شئنا التدقيق أكثر، يمكننا تعريف العنف المدرسي على أنه مجموع السلوكيات العدائية غير المقبولة اجتماعيا، والتي من شأنها أن تؤثر سلبا على النظام العام للمدرسة سواء مورست داخل حرم المؤسسة التربوية أو خارجه”.
وكشف تقرير للمرصد الوطني للعنف المدرسي صادر بتاريخ الخامس من ديسمبر 2014 حول مؤشرات العنف داخل المؤسسات التربوية وفي محيطها، عن تصدر ولاية تونس الكبرى قائمة حوادث العنف خلال الفترة الممتدة ما بين سبتمبر ونوفمبر 2014. واعتمد المرصد على رصد وتحليل التقارير الإخبارية والمقالات الصادرة عن الصحف الوطنية طوال الفترة المذكورة، مع ما تنشره صفحات التواصل الاجتماعي من أخبار وبناء على المراصد الجهوية والمحلية المنتصبة في أنحاء الجمهورية.
وأرجع التقرير الأسباب المؤدية إلى العنف إلى تقلص دور الأسرة التأطيري في ظل عمل الأبوين والالتجاء إلى المحاضن، والتفكك الأسري الناجم عن الطلاق، وعدم إشباع الأسرة لحاجيات أبنائها نتيجة تدني مستواها الاقتصادي.
كما رصد أسبابا تتعلق بالمجتمع وتؤدي إلى توسع ظاهرة العنف وهي الفقر والحرمان في بعض الجهات والأحياء، وسيطرة جذور المجتمع المبني على السلطة الأبوية.
ويرى الخبراء أن استخدام العنف من قبل الأب أو المدرس هو أمر مباح ويعتبر في إطار المعايير الاجتماعية السليمة، وحسب النظرية النفسية – الاجتماعية، فإن الإنسان يكون عنيفا عندما يتواجد في مجتمع يعتبر العنف سلوكا ممكنا مسموحا ومتفقا عليه.
كما أن النظرة التقليدية القائمة على تمجيد التلميذ الناجح والتقليل من شأن التلميذ الفاشل دراسيا مقارنة تحقيرية ودونية تولد سلوكا عنيفا وإحباطا.
هذا إضافة إلى أن كثرة البطالة وخاصة بطالة أصحاب الشهادات وانسداد الأفق، وغياب السياسات الاجتماعية الناجعة في الجهات والأحياء المهمشة وكذلك التخطيط الفعال، وعدم وجود سياسات منظمة لأوقات الفراغ وطرح الأنشطة الترفيهية البديلة، وضعف وسائل الإرشاد والتوجيه الاجتماعي، كلها عوامل ساهمت في انتشار العنف في أوساط المجتمع.
كما أن المستوى السوسيو – اقتصادي لبعض الأسر الفقيرة يجعل التلميذ يشعر بالنقص والحرمان بين أقرانه، وهذا يدفعه إلى الإحساس بالكراهية والحقد تجاه الآخر الذي هو أحسن منه حالا، ويولد تصرفات غريبة تسوقه إلى اقتراف بعض الممارسات العنيفة.
وسواء نظرنا إلى العنف كنمط من أنماط السلوك أو كظاهرة اجتماعية فهو آفة تستحق التحليل والعلاج.