تفاعلات الأزمة السورية تجبر القبيسيات على مغادرة المنطقة الرمادية

تقاطع مصالح المال والسلطة يقود الحركة الدينية النسوية إلى المحظور.
الاثنين 2021/07/05
من المهادنة إلى التماهي

شكلت حركة القبيسيات حالة فريدة من نوعها في الوطن العربي، حيث نجحت هذه الحركة الدينية النسوية في فرض نفسها في حقل لطالما هيمن عليه الرجال، متجاوزة العديد من المراحل التي لم تخل من صعوبات متبنية في ذلك نهجا لا يخلو من براغماتية في علاقتها بالسلطة والجماعات الدينية المختلفة في سوريا. ولئن تعرضت هذه الحركة إلى العديد من الهزات على خلفية الأزمة السورية منذ العام 2011، فإنها لا تزال مركز جذب بالنسبة إلى الكثيرات.

نجحت حركة القبيسيات في الحفاظ على وجودها لاسيما داخل الحواضر الكبرى في سوريا، رغم ظروف الحرب التي تمر بها البلاد منذ العام 2012، والتي أثرت على العديد من التنظيمات والمجموعات الدينية ذات الخلفية الفكرية “المعتدلة”، في مقابل صعود التيارات الراديكالية.

ولعب تكوين هذه الحركة الدينية النسوية التي جمعت بين الحفاظ على رؤية دينية تقليدية، بالتوازي مع اعتمادها منهجا حداثيا وهو ما يظهر في هيكليتها التنظيمية غير المعقدة، دورا أساسيا ليس فقط في الإبقاء على هذا الوجود على مدى عقود بل وفي اتساع نطاق انتشارها، ولا تزال هذه الحركة أو الجماعة إلى اليوم تشكل مركز جذب للكثير من النساء يتجاوز الجغرافيا السورية.

واجهت الحركة في العام 2011 بعض الانشقاقات جراء موقفها ككل من الثورة في سوريا، والذي شكل بمثابة نقطة تحول كبير بالنسبة إليها خصوصا وأنها أبدت في السابق حرصا على الحفاظ على نوع من الحياد رافضة التوغل في الحقل السياسي، أو إبداء أي موقف بشأنه، وهو ما ساهم على مدى عقود في تغلغلها وانتشارها أفقيا داخل المجتمع السوري، بيد أن هذه الانشقاقات لم تؤثر على النحو الذي يعتقده منتقدوها.

وكان نظام الرئيس بشار الأسد حرص على استقطاب هذه الحركة الدينية النخبوية إلى صفه بعد أن كانت المواقف الرسمية تجاهها متباينة ومغلفة بالكثير من الشكوك وانعدام الثقة. وشكل اللقاء الشهير في القصر الجمهوري في العام 2011 بين عضوات الحركة والرئيس الأسد بمثابة إعلان عن انحياز هذه الحركة للنظام في وجه الثورة، وإن كان البعض يرى أن هذا الحضور لا يمكن البناء عليه للحديث عن اصطفاف واضح وصريح، خصوصا وأنه غابت عنه مؤسسة الحركة منيرة القبيسي (86 عاما) وأيضا أميرة جبريل.

ويرى المدافعون عن الحركة أن موقفها كان اضطراريا للحفاظ على وجودها واستمراريتها، لأن استعداءها للنظام في تلك الفترة قد يقود إلى سحقها خصوصا وأن موطن ثقلها كان دمشق حيث مركز نفوذ الرئيس الأسد، منوهين إلى أنه لم يسجل أي تصريح علني من عضوات الحركة ينتصرن فيه لهذا الطرف أو ذاك.

في المقابل يجد هذا الموقف انتقادا من المؤيدين للثورة وقوى المعارضة، الذين يرون في أن بنية القبيسيات نفسها القائمة على الطبقة الثرية تجعل مصالح الحركة تتقاطع بالضرورة وحسابات السلطة. ويستشهد هؤلاء بتعيين إحدى عضوات الحركة سلمى عياش كمعاون لوزير الأوقاف، والذي كان الهدف منه ضمان ولاء الحركة ومكافأتها على جهود دعمها.

الآنسة الكبرى

منير الفقير: النظام استخدم القبيسيات كوسيلة لشرعنة حكمه
منير الفقير: النظام استخدم القبيسيات كوسيلة لشرعنة حكمه

يقول منير الفقير الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية لـ”العرب” إن بدايات حركة القبيسيات كانت على يد مؤسستها الحاجة منيرة القبيسي (من مواليد دمشق عام 1933)، وقد درست القبيسي (تلقب أيضا بالشيخة أو الآنسة الكبرى) في كلية العلوم بجامعة دمشق وانتمت لجماعة الشيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهورية السورية الأسبق. ومنذ نهايات ستينات القرن الماضي، انطلقت الحاجة القبيسي كداعية شابة ضمن صفوف هذه الجماعة الصوفية النقشبندية.

ويرى الفقير أنه لا يمكن سبر أغوار القبيسي الفكرية لاسيما في بداياتها، دون البحث في شخصية ملهمها والأب الروحي الشيخ كفتارو الذي عرفت عنه مواقفه المثيرة للجدل في ما يتعلق بالعلاقة مع السلطة وبالأخص حزب البعث الحاكم، وعلاقته بالجماعات الإسلامية الأخرى ومن بينها جماعة الإخوان المسلمين وعموم المشيخة الشامية التقليدية.

واتسم موقف كفتارو بالقرب من السلطة السياسية بالمجمل، وفي مراحل مبكرة سجل لديه نزوع نحو خصوم التيار الديني العلمي والحركي، كما ظهر ذلك في دعم كفتارو لترشيح المحامي البعثي رياض المالكي عام 1957 ثم القرب من الحكومات الانقلابية البعثية وصولا لتولي كفتارو منصب مفتي سوريا.

حركة تتحدى هيمنة الرجل

منيرة القبيسي

  • ولدت في العاصمة السورية دمشق عام 1933، وانضمت مبكرا إلى الحقل الديني متأثرة بمفتي سوريا الأسبق الشيخ أحمد كفتارو.
  • عملت ضمن جماعة كفتارو لسنوات، قبل أن تتخذ خطا مغايرا بتأسيس حركة نسوية دينية أطلقت عليها تسمية «القبيسيات».
  • نجحت الحركة في استثمار الظروف المحيطة بسوريا في ثمانينات القرن الماضي لاسيما الصدام بين السلطة وجماعة الإخوان، لتحقق انتشارا أفقيا واسعا داخل الحواضر الكبرى.
  • حرصت القبيسي على النأي بحركتها عن كل ماهو سياسي، بالاهتمام بالجانب الدعوي والخيري والاجتماعي من خلال التركيز على قطاعات بعينها كالتعليم (في تجربة شبيهة بالداعية التركي عبدالله غولن).
  • شكل صعود بشار الأسد في العام 2000 نقطة تحول حيث تم السماح للحركة بالعمل بشكل علني، مع الإبقاء عليها تحت مجهر المخابرات السورية.
  • عمد النظام السوري مع انفجار الأحداث في العام 2011 إلى استقطاب الحركة إلى صفه لإدراكه بأهمية تأثيرها داخل المجتمعات الحضرية، فكان اللقاء الشهير الذي جمع بين الأسد وعضوات الحركة في القصر الجمهوري في ذلك العام، وتلاه بسنوات منح سلمى عياش إحدى العضوات منصب معاون وزير الأوقاف.
  • في خضم هذا التحول للحركة لم يسجل أي ظهور لمؤسستها منيرة القبيسي، البعض يعيد ذلك إلى سن المرأة (86 عاما) وآخرون يرون في الأمر علاقة بتمسكها بنهجها في البقاء على الحياد وعدم الانخراط في السياسة.

سطع نجم القبيسي ضمن جماعة كفتارو وتحت اسم شيخ الجماعة الذي ركز منهج دعوته على التصوف والتزكية وفق الطريقة النقشبندية وابتعد إلى حد كبير عن المنهج العلمي للمدرسة الشامية التقليدية. وبدأت القبيسي ومن معها بشق طريقها في حقل العلم الشرعي بالتوازي مع توسع نطاق حركتها وتوطد علاقاتها مع الوسط الديني وأيضا مع البرجوازية المدنية بشكل أساسي في حلب ودمشق ليبدأ في منتصف السبعينات ابتعاد القبيسي ومن معها عن كفتارو لتنتهج نهجا يدمج بين الوعظية الدعوية والتربية الصوفية النقشبندية والنهج العلمي التقليدي للمدرسة الشامية وفق المذهب الشافعي.

وواكب ذلك بدايات الصدام العنيف بين نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد وجماعة الإخوان المسلمين نهاية السبعينات والذي انتهى بسحق جماعة الإخوان بما في ذلك الامتدادات النسوية داخلها، لتغدو جماعة كفتارو ومن في حكمها منهجا وموقفا، الحليف السني الرئيسي للنظام الذي يشرعن بقاءه المستند أيضا إلى عصبية علوية عميقة.

دعم نظام حافظ الأسد جماعة كفتارو كما غض الطرف عن تمدد حركة القبيسيات التي حققت انتشار أفقيا واسعا داخل المجتمعات الحضرية، لما أظهرته من التزام بالجانب الدعوي والخيري، وابتعادا كليا عن الشأن السياسي، وهو الأمر المطلوب بالنسبة إلى السلطة.

ولم تخل توجهات السلطة في التعاطي مع جماعة كفتارو كما مع القبيسيات من خلفيات سياسية، حيث تم توظيف الطرفين لتحييد جماعة الإخوان المسلمين ونشر الفكري المحافظ والصوفي.

ويوضح الفقير أن نشاط القبيسيات شهد نقلة نوعية في ثمانينات القرن الماضي، وقد اتسع نطاق انتشارها لتتجاوز دمشق إلى عموم المحافظات السورية وتعبر إلى الأردن ولبنان وحتى دول أوروبية، واستطاعت الحركة أن تسد ثغرة كبيرة في الفراغ الديني الذي خلفه سحق نظام حافظ الأسد للحركة الإسلامية مع موقف مهادن لكن غير متماه مع النظام ويبتعد عن التحدث أو التدخل في أي شأن سياسي.

الوقوع في المحظور

مع وصول الأسد الابن (بشار) إلى السلطة مطلع العام 2000 توطدت العلاقة بين حركة القبيسيات ومسؤولين في النظام من الدرجة الأولى وصولا إلى البناء على علاقة قديمة مع والدة أسماء الأسد (زوجة بشار الأسد).

وكان لتحولات نظام الأسد الاقتصادية بعد استلام بشار السلطة وتحالفاته الجديدة مع البرجوازية الدمشقية والحلبية دور كبير في توطيد علاقات القبيسيات مع السلطة الحاكمة حيث تنتمي الكثير من زوجات تجار ورجال الأعمال في دمشق وحلب وحمص إلى الحركة وبعضهن من قيادات الصف الأول فيها، في الوقت الذي بدا أن النظام أراد أن يضبط الحركة ويؤممها، فتم إغراؤها بالانتقال تدريجيا للعمل في المساجد، وصولا إلى حظر العمل الدعوي في البيوت.

ورغم أن الحركة كانت ترتبط بشكل أو بآخر مع النظام إلا أنها كانت تحت مجهر المخابرات السورية ومخترقة إلى حد كبير، حيث لم يكن نظام الأسد الابن مطمئنا لها وقد حاول تحجيمها من خلال شن مقربين منه حملة إعلامية عليها من قبيل أنها “تنظيم ماسوني” لطبيعتها السرية، والزعم أحيانا بأنها “خلية إخوانية”.

ومع اندلاع الثورة السورية في العام 2011 التحقت الكثيرات من بنات الحركة بالثورة وخاصة في مدينة دمشق، ما أحدث انقسامات داخل الحركة بين خط يفضل الابتعاد عن أي موقف سياسي وخط متماه مع النظام وخط ثوري انشق غالبه وبقي قليل منه مرتبطا بها إلى اليوم.

ويعتقد كثيرون أن الحركة لم تكن تملك الكثير من الخيارات لضمان استمرارها وتمددها سوى الالتحاق بركب نظام الرئيس بشار الأسد، حيث كانت تخشى بسقوطه فقدان الامتيازات التي حصلت عليها على مدى عقود، لاسيما وأن البديل يبدو معاديا لطبيعتها الدينية التي تنهل من الصوفية.

وتشكل هذه النقطة أحد المرتكزات التي استند عليها نظام الرئيس بشار الأسد لاستدراج الحركة وضمان ولائها، كما أن تأثيرات العائلات التي كانت تنتمي لها عضوات الحركة وهي من طبقة التجار والأثرياء كان له تأثيره على مواقف الحركة.

ويقول الباحث الفقير إن النظام استخدم الجماعات الدينية بما في ذلك القبيسيات كوسيلة لشرعنة حكمه وشرعنة قمعه لاحقا للثورة السورية كما دعم بعض التوجهات غير الدينية في الوقت عينه ليقف على ناصية الاستقطابات المجتمعية الحادة ويعزز سلطته، إلا أن الموقف المجمل للحركة في النهاية تماهى مع النظام بشكل كامل، لتكون أداة أساسية في استمرار شرعنة الأسد وتطويعه للمجتمع السوري الذي بقي تحت سلطته.

13