تعاطي المخدرات وإدمانها يهدّدان الأسرة التونسية

تعيش الأسرة التونسية، في ظل التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم، عديد الإشكاليات خاصة في ما يتعلق بمعضلة السلوكيات السلبية التي تهدد أمن أفرادها وتماسكهم. ولعل تعاطي المخدرات والإدمان من بين المشاكل الاجتماعية التي تستوجب الانتباه لغاية التطويق، نظرا لما تفرزه هذه الظاهرة من مشكلات وما تفرضه على الأسرة من تحدّيات. وباعتبارها “الحاضن” للمدمن، تبقى الأسرة المتضرر الأول من هذه الظاهرة سواء كان المتعاطي زوجا أو أبا أو ابنا أو حتى بنتا.
أثبتت الأرقام الأخيرة تنامي منسوب العنف والانحراف والجريمة وحوادث الطرقات والانتحار وارتفاع نسب الطلاق وانتشار الأمراض المعدية وتهديد قيم المجتمع الأخلاقية والسلوكية جراء تعاطي المخدرات. وهو ما أشارت إليه بيانات أحصاها منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي أكد على لسان منسقته العامة نجلاء عرفة، أن أغلب الجرائم التي ترتكب تكون تحت مفعول المخدرات بمختلف أشكالها، مشيرا إلى أن النفاذ إلى المخدرات يزيد في أشهر الصيف ويرتفع معه منسوب الجريمة.
وجاء في دراسة ميدانية أنجزتها وزارة التربية هي الأولى من نوعها في تونس من حيث شموليتها وحجم العيّنة المعتمدة في إنجازها، (حصلت “العرب” على نسخة منها) أن 9.2 بالمئة من التلاميذ يتعاطون المخدرات،17.4 بالمئة منهم مدمنون ويتوزعون حسب الجنس إلى 78 بالمئة من الذكور و22 بالمئة من الإناث.
وأشارت الدراسة إلى أن 76.1 بالمئة ممن شملتهم يعتبرون الحصول على المخدرات أمرا سهلا، مؤكدة أن نسبة 44.7 بالمئة من المخدرات تباع في المحيط السكني للمستهلك و34.2 بالمئة منها تباع بالقرب من المؤسسة التربوية و25.4 بالمئة تباع داخلها.
كما بين مسح عنقودي لسنة 2018 لعينة تقدر بـ11473 أسرة في تونس، أن نسبة تعاطي التبغ في صفوف المراهقين تصل إلى 42 بالمئة لدى الذكور، مقابل 5.3 بالمئة لدى الإناث ونسبة تعاطي الكحول تصل إلى 10.7 بالمئة لدى الذكور و0.3 بالمئة لدى الإناث.
وفي قراءة لبعض الأرقام الواردة في الدراسة، على غرار وضعية عيش المتعاطين في العائلة، تشير النسب إلى أن 89.1 بالمئة من المتعاطين يعيشون مع أسرهم، وأن والدي 88.3 بالمئة منهم غير منفصلين و89.9 بالمئة من عائلاتهم وضعياتها متوسطة وميسورة، وهو ما يؤكد أن العائلة ليست دائما السبب الرئيسي في اللجوء إلى تعاطي المخدرات أو إدمانها بقدر ما هي الضحية.
هذا الطرح أكدته نزيهة العبيدي وزيرة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن عندما أشارت إلى أن مظاهر التفكك الأسري وظهور حالات الانفصال والطلاق هي أساسا نتيجة لسلوك المتعاطي للمواد المخدرة والمتمرد عادة على سلطة الأبوين وسلطة المجتمع، موضحة أن الإدمان له كلفة اقتصادية إضافية تثقل كاهل ميزانية الأسرة إضافة إلى إهدار قدرتها المالية في العلاج وإعادة التأهيل. هذا إلى جانب ارتفاع الكلفة على المجتمع والدولة، كإهدار رأس المال البشري، وارتفاع الوفيات في صفوف المتعاطين، وارتفاع النفقات المتعلقة بعلاج المدمنين، وكلفة إحداث مراكز للعلاج والتأهيل لمتعاطي للمخدرات والمدمنين.
للإدمان كلفة اقتصادية تثقل كاهل موازنة الأسرة إضافة إلى إهدار قدرتها المالية في العلاج وإعادة التأهيل
وقالت العبيدي، خلال ورشة حول أثر تعاطي المخدرات والإدمان على الأسرة والأمن القومي “إن كل هذه المعطيات من شأنها أن تساهم بشكل أو بآخر في تردي الوضع الذي تعيشه الأسرة التونسية بدرجة مباشرة”، مشيرة إلى أنها أصبحت غير قادرة على مجابهة هذا الوضع وهو ما يستوجب التدخل العاجل لإيجاد آليات وبرامج وخططا تنموية لمواجهة الأوضاع المستجدة، حفاظا على استقرارها وتوازنها وموقعها كمؤسسة اجتماعية أولى.
وأضافت “لعل تنفيذ مكونات الاستراتيجية الوطنية لتطوير قطاع الأسرة، باعتبارها محور السياسات التنموية المستدامة، يعتبر مكسبا من شأنه أن يساهم بدرجة أولى في تطوير العقليات وتوعية الأسر للقضاء التدريجي على تنامي هذه الظاهرة وتحقيق النهوض بأفراد هذه الفئة الهشة، وتأهيلهم ورفع درجة الوعي لديهم”.
وأكدت العبيدي أن مجال مقاومة ظاهرة الإدمان على المخدرات في تونس يشهد عدة نقائص أهمها عدم توفر مركز لتأهيل المدمنين والمتعاطين للمخدرات وهيكل خاص يرصد هذه الظاهرة، مشيرة إلى أن وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن تعمل من خلال الجانب الوقائي لمختلف أفراد الأسرة على تفعيل آليات ومناهج التربية الوالدية المتوازنة، بما يضمن التصدي لهذه الآفات والمشكلات الاجتماعية التي أصبحت تهدد الاستقرار والتماسك الأسري والأمن القومي.
من جهته أكد الخبير في علم الاجتماع سامي نصر، أن ظاهرة تعاطي المخدرات أصبحت من الظواهر الملفتة للانتباه والتي يجب التوقف عندها بأكثر جدية.
وقال نصر لـ “العرب”، “يجب التعامل مع هذه الظاهرة من خلال سوسيولوجيا الفرص المتاحة، أي أن الحصول على مخدر القنب الهندي على سبيل المثال أصبح متاحا في تونس أكثر من الحصول على مواد غذائية تفقد من حين لآخر”، مشيرا إلى أن جهازا كاملا يعمل على خلق مجتمع مدمن عن طريق الوفرة وسهولة الحصول على المنتوج، وهو ما يجعل استهلاك المخدرات أمرا سهلا.
ولفت نصر إلى أن الأرقام المتداولة في وسائل الإعلام من شأنها الترويج للمخدرات بطريقة غير مباشرة، من ذلك الرقم الذي تم تداوله منذ 4 سنوات والذي أكد أن 84 بالمئة من شباب تونس استهلكوا المخدرات ولو لمرة واحدة.
وأضاف نصر، “إن التطبيع مع الظاهرة السلبية جعلها تنتشر بشكل مكثف خاصة مع الأزمة التي عرفتها البلاد بعد ثورة 2011، مما جعل الأسرة تشهد نوعا من التفكك إضافة إلى تراجع دورها التقليدي في رعاية أفرادها وإيكاله إلى مؤسسات أخرى”.
بدوره، اعتبر معاذ بن نصير أستاذ علم الاجتماع، أن ما عاشته البلاد بعد الثورة من فوضى وانفتاح للحدود، سهل دخول المواد المخدرة إلى التراب التونسي، مشيرا إلى أن تسريب كميات كبيرة من المواد المخدرة خلال السنوات الأخيرة جعل ثمنها زهيدا.
وقال إن “الشاب يقع في ثنائية التأثر والتأثير ضمن دائرة الأتراب والأصدقاء”، معتبرا أن نظرية الانتماء للمجموعة، تؤدي ببعض المراهقين إلى السقوط في فخ مثل هذه الممارسات والسلوكيات، وذلك تحت غطاء التحضر والتمدن، وفق اعتقادهم.
وأكد بن نصير أن تخليص الشباب من براثن الإدمان، يتطلب دمج أخصائيين في علم النفس وعلم الاجتماع داخل المدارس والمعاهد، لكي تتم عملية الاستباق لحالات الإدمان، إلى جانب استعادة العائلة لدورها المحوري في المراقبة المستمرة للأبناء.
كما أشارت مليكة الورغي مديرة شؤون الأسرة بوزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن إلى أن الوقاية من الإدمان تتطلب دعم الحوار الهادف داخل الأسرة من خلال الإنصات للأبناء والتعرف عن قرب على مشاغلهم وتطلعاتهم.
وقالت الورغي لـ”العرب”، “إن اليقظة ومراقبة سلوك الأبناء من خلال التفاعل معهم خاصة فى سن المراهقة، والتعرف عن قرب على أصدقائهم المقربين، وكيفية التواصل معهم ومنح الثقة للأبناء عبر تشريكهم في مسارات صنع القرار داخل الأسرة والتشجيع على ممارسة الأنشطة الرياضية
والترفيهية من خلال إدماجهم فى الأنشطة الرياضية والثقافية والاجتماعية، من شأنها أن تحد من انتشار الظاهرة”.
كما اعتبرت أن المصادقة على الاستراتيجية الوطنية لتطوير قطاع الأسرة والخطة الوطنية الخماسية 2018-2022 في 08 مايو 2019، تتنزل في إطار تدخل الوزارة لمكافحة الظاهرة من منظور أسري.
وقالت الورغي “إن هذه الاستراتيجية التي تعدّ أولّ استراتيجية قطاعية في هذا المجال، تهدف إلى تطوير المنظومة التشريعية في مجال الأسرة تدعيما للمساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين، ودعم وظائف الأسرة وإكسابها النجاعة والفاعلية وتعزيز أدوارها والعلاقات داخلها ومع محيطها الخارجي، وتمكين الأسر ذات الوضعيات الخاصة ومرافقتها ودعم قدراتها، إلى جانب تحقيق الرفاه الأسري والتنمية المستدامة لكافة أفراد الأسرة”.
وأضافت أن الحفاظ على جو من الهدوء والسلام والسعادة والحب داخل الأسرة، وحل الخلافات الزوجية بعيدا عن الأطفال والمراهقين، وغرس القيم والمثل العليا لدى الأبناء، وتعزيز الوعي لديهم ومساعدتهم على بناء شخصياتهم بشكل متوزان، من شأنها أن تقيهم من السقوط في فخ التعاطي، مشيرة إلى أن مرحلة ما بعد التوقف عن تعاطي المخدرات والإدمان تحتاج إلى مستويات عدة من المساعدة”.
وأكدت الورغي أن المرافقة النفسية المتخصصة للتفكير في طريق أفضل للخلاص من هذه الآفة وعدم العودة لها، وتعلم مفاهيم أساسية عن طريق الحياة الصحية، وكيفية خلق مجالات جديدة في حياتهم، تساعدهم على خوض هذه التجربة بنجاح، وتهيئهم للمصاعب المتوقعة في الفترات الأولى للتوقف.
وأشارت الورغي إلى أنه من بين أشكال المرافقة النفسية إعادة دمج الفرد في المجتمع بعد التعافي من مرض الإدمان، وتهيئته سلوكيا للتصرف بعقلانية في جميع المواقف خصوصًا لعدم العود، وتأهيل الأسر للإلمام بدورها في رعاية المتعافين من الإدمان، وكذلك تمكين أسر المدمنين من الالتحاق بدورات تدريبية للتعامل مع المدمن المتعافي عند عودته إلى أسرته بشكل إيجابي وفاعل.