تسوية ملفات المدرسين في تونس: ذكاء سياسي أم ضرورة اجتماعية

ما قام به قيس سعيد لفائدة الآلاف من المدرسين خطوة لحماية الاستقرار الاجتماعي وقطع الطريق على محاولات استثمار أزمة اجتماعية.
الأحد 2025/01/12
قيس سعيد ينهي أزمة المدرسين

من الصعب أن ينظر التونسيون إلى الملفات التي تطرح أمامهم بمنظار غير سياسي، فمن يكون القرار في صفه يصفه بالجيد وبالذكي، ومن يراه في غير صالح يهاجمه ويعتبره خطأ. هذه القاعدة طالت قرار الرئيس قيس سعيد بإدماج عشرين ألف مدرس ثانوي وأساسي ممن عملوا لفترات محدودة ومضبوطة بعقد يصنّفهم كعمال وقتيين يمكن لوزارة التربية الاستغناء عنهم أنّى شاءت.

المعارضون رأوا في الخطوة قرارا شعبويا يثقل كاهل الدولة بموظفين جدد ويزيد من كتلة أجور القطاع العام، التي ترهق الميزانية السنوية. والداعمون لقيس سعيد رأوا في قرار الإدماج موقفا بطوليا يعكس مدى التزامه بقضايا الناس ودعمه لأصحاب الحق.

لكن المقاربة لا تعتمد فقط منطق يا أبيض يا أسود. هناك حقيقة تعامل معها الرئيس سعيد بعقل الدولة وليس بموقفه الشخصي. الدولة تعرف أن توظيف الآلاف دفعة واحدة سيفتح عليها أبواب المطالبات بتسوية أوضاع المتعاقدين مع وزارات أخرى، وهم كثيرون. ولذلك، فقد سعت في البداية إلى القيام بتسوية موجة وعلى دفعات سنوية، أي كل دفعة يتم تحميلها لميزانية عام لعدم القدرة على اعتمادها في ميزانية واحدة.

ما الذي جد في الأمر حتى يقرر الرئيس سعيد إدماج الآلاف من المدرسين دفعة واحدة؟

◙ المعارضون رأوا في الخطوة قرارا شعبويا يثقل كاهل الدولة بموظفين جدد ويزيد من كتلة أجور القطاع العام، التي ترهق الميزانية السنوية

تشعر الدولة بأن الوضع الاجتماعي صعب في ظل أزمات متراكبة داخلية وخارجية، وأن كثيرا من الفئات محدودة الدخل أو التي يتم تشغليها بشكل ظرفي وهامشي لن تكون قادرة على تحمل تداعيات هذه الأزمات، خاصة أنها ترى بأن الموظفين القارين بمن في ذلك الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى يكابدون لمجاراة تعقيدات الوضع الاجتماعي في ظل ارتفاع الأسعار، فما بالك بمن يحصلون على رواتب زهيدة وعقود هشة من الدولة نفسها وليس فقط من القطاع الخاص.

ولأن قيس سعيد متصالح مع أفكاره، فأولى أن يطبقها على التزامات الدولة التي يفترض بها أن تمنع أنظمة التشغيل الهشة داخل مؤسساتها لتعطي المثل، ولتجد إجراءاتها مصداقية في حال سعت إلى مواجهة أشكال العمل الوقتي في قطاعات أخرى. ولا يمكن أن تطالب القطاع الخاص بالتزام معايير لا تلتزم بها الدولة نفسها

وسبق أن وصف المدرسون الوقتيون، الذين تظاهروا مرارا وتكرارا، العقود التي تربطهم بوزارة التربية بأنها هشة ولا تفضي إلى التوظيف، وكثيرا ما دعوا إلى تسوية الوضعيات عبر التوظيف المباشر والجلوس إلى طاولة الحوار لإيجاد الحلول وتنزيل الاتّفاق المطلوب بالرائد الرسمي حتّى يكون ملزما للجميع.

يضاف إلى الالتزام الرسمي بتجاوز أشكال العمل الهشة، وهو مبرر نظري وفكري يمكن تجسيده عبر الوقت، نجد أن إضراب المدرسين، الذي كان هذه المرة أكبر عددا، قد تزامن مع ذكرى انتفاضة الخبز في يناير 1984، في توقيت محسوب يلوح من خلاله من رتبوا الموعد أنهم يمكن أن يحركوا الاحتجاجات في شهر عرف تاريخيا بأنه شهر مواعيد الاحتجاجات، ولعل أبرزها تاريخ 14 يناير 2011 تاريخ مغادرة الرئيس السابق زين العابدين بن علي للبلاد ونجاح الثورة.

قيس سعيد طالما أشار إلى انتفاضة الخبز كمرجعية تاريخية في رفض شروط صندوق النقد الدولي بشأن منح تونس قرضا في حدود ملياري دولار، وهو ما يعني أنه يفهم شروط تحقيق تلك الانتفاضة، وأن عجز الدولة عن التعاطي مع تفاصيل صغيرة مثل زيادة سعر الخبز يمكن أن يغير المشهد كليا.

لقد كان قرار إدماج المدرسين المتعاقدين خطوة ذكية سياسيا من جانب أنها سحبت المبررات من أمام من كان يخطط للدفع نحو التصعيد، ولكنها أيضا ضرورة اجتماعية، فلا يمكن أن تسمح الدولة لفئات من أبنائها أن تظل على الهامش أو أن تدفع فاتورة أزمة لا ذنب لها فيها خاصة أن الاستمرار في الصمت الذي جربته حكومات سابقة قد قاد إلى تعقيدات أكبر في ملف المدرسين.

وضمن هذه المقاربة التي تقوم على تحمل الدولة لدورها بشكل واضح وعدم تحميل نتائج الأزمة للفئات الهشة يمكن الإشارة هنا إلى القرار الحكومي بتسوية أوضاع عمال الحضائر، وهم فئة من آلاف من الفئات الهشة تم انتدابها في سياق مساعي حكومات سابقة لشراء السلم الاجتماعي.

لكن المشكلة تكمن في مدى قدرة الدولة على تحمل أعباء مقاربة الدولة الاجتماعية التي يتبناها الرئيس سعيد، والتي تجعلها تنفق المزيد لتحسين أوضاع الفئات الهشة في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة مالية وشح في التمويلات الخارجية وكذلك الاستثمارات. ولهذا، فإن الحكومة مطالبة بأن تبحث عن حلّ يقوم على تحريك الاقتصاد وجذب المستثمرين لإنجاح معادلتها.

◙ المشكلة تكمن في مدى قدرة الدولة على تحمل أعباء مقاربة الدولة الاجتماعية التي تجعلها تنفق المزيد لتحسين أوضاع الفئات الهشة

وبعد ثورة 2011 تم إدماج جميع عمال المناولة في القطاع العام والوظيفة العمومية، ولا يزال الآلاف منهم يرزحون تحت هذا النظام الهش من التشغيل في عدة قطاعات خاصة مقابل أجور زهيدة وفي الغالب دون ضمانات بالتغطيات الاجتماعية والصحية.

ما قام به قيس سعيد من إدماج لفائدة الآلاف من المدرسين هو خطوة لحماية الاستقرار الاجتماعي بالدرجة الأولى وقطع الطريق على محاولات استثمار أزمة اجتماعية افتراضية يتوقعها الكثيرون لدفع البلاد إلى التوتر إما لأجندات خارجية ضمن استثمار التطورات السورية أو لأجندات محلية ضمن حسابات سياسية لمعارضة لم تعد قادرة سوى على انتظار أحداث عرضية. من الجانب السياسي، لا تقدر المعارضة على التأثير في المشهد الاجتماعي، حتى لو تظاهر الناس في شهر الاحتجاجات، فقد صارت معارضة بيانات وتعليقات هامشية على مواقع التواصل.

أما بالنسبة إلى اتحاد الشغل، فهناك خطان في التعامل مع التصعيد الاجتماعي، خط يميل إلى التهدئة وإعطاء الفرصة للدولة لمقاربة الأزمة الاجتماعية من خلال خطوات عملية مع تقدير الوضع الاقتصادي الصعب محليا وخارجيا. وهناك فريق ثان يميل إلى التصعيد بأيّ طريقة لإثبات أن المنظمة ما تزال موجودة ومؤثرة، وأن ما يقال عن تراجعها وخلافاتها من السهل تجاهله في أيّ تصعيد ضد السلطة.

وسعت النقابات لتوظيف ملف المدرسين في إحراج السلطة ودفعها إلى الحوار تحت الضغط، لكن قرار قيس سعيد بإدماج هؤلاء المدرسين يقطع الطريق على استثمار المشاكل والأزمات المتوارثة، خاصة من قيادة اتحاد الشغل، من أجل العودة إلى الواجهة وفي الوقت نفسه تخفيف الانتقادات داخل المنظمة النقابية للأمين العام نورالدين الطبوبي ومكتبه التنفيذي.

ليس أصعب على اتحاد الشغل من هذا الوضع. في السابق كان يواجه الحكومات الضعيفة والمتهاونة بشعار وحدة النقابيين وبإغراءات الزيادة في الرواتب وتحصيل مكاسب ما كان الموظفون والعمال في القطاع الحكومي يفكرون فيها أصلا، مثل الحصول على نسب من أموال الجباية. الآن كل شيء بمقدار واضح، وكل جهة أو منظمة تلعب في المربع المسموح لها به.

4