تركيا تدفع نحو مؤتمر إسلامي+ في كوالامبور لتطويق السعودية

تسعى تركيا بشتى الطرق إلى تطويق المملكة العربية السعودية مرة باستخدام الإسلام السياسي وأخرى باعتماد الأحلاف السياسية لذلك سارعت بالموافقة والتشجيع على عقد قمة كوالالمبور التي دعا لها رئيس وزراء ماليزيا العائد مهاتير محمد، في محاولة لاقتناص دور الوصيّ على الإسلام السني في العالم، غير أنها تدرك أن تحقيق ذلك غير ممكن في ظل وجود السعودية كقوة إسلامية وازنة وراعية للمؤسسات الدينية الكبرى في مكة والمدينة والتي تدّعمت مكانتها بانتهاج سياسة انفتاحية. وإدراكا لطبيعة الأجندة المرسومة في هذه الندوة أعلنت باكستان، البلد ذو الأهمية الاستراتيجية والديموغرافية في العالم الإسلامي امتناعها عن الحضور، فيما أرسلت إندونيسيا نائب الرئيس. وهي مقدمات تشي بفشل ذريع لكل ما خططت أنقرة لتنفيذه عبر المؤتمر.
لا تخفي تركيا مساعيها لتطويق نفوذ السعودية على أكثر من جبهة حتى وإن كانت تتجنب الحديث عن ذلك علانية خاصة بعد الفشل في تحقيق مكاسب من وراء تضخيم قصة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي والوقوف على مصداقية السعودية وشبكة علاقاتها الدولية.
وسعت أنقرة في أكثر من ملعب إلى قطع الطريق على نفوذ السعودية وحلفائها الإقليميين بتحريك أدوات محلية أو ضخ أموال وتقديم دعم اقتصادي وأمني.
لكن فكرة إنشاء قوة إسلامية بديلة للمؤتمر الإسلامي، مقره مدينة جدة السعودية، تعطي انطباعا جديا بأن تركيا قد خرجت من مربع المناكفة السياسية وتخريب مربعات تحرك الخصوم إلى بناء آلية لضرب السعودية على مستوى نفوذها الديني التقليدي في جنوب شرق آسيا.
وتحركت السعودية بشكل أو بآخر لإفشال هذه المبادرة الهادفة إلى بناء مؤتمر إسلامي تحت مسمى الاتحاد الخماسي بين تركيا وباكستان وإندونيسيا وماليزيا وقطر، وهو ما أفضى إلى تراجع رئيس الوزراء عمران خان عن زيارة ماليزيا والمشاركة في القمة الخماسية. كما تراجع الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو عن الحضور.
موقف مبدئي
قالت السعودية إن سبب قرارها عدم الحضور إلى القمة أنها ليست الساحة المناسبة لطرح القضايا التي تهم مسلمي العالم البالغ عددهم 1.75 مليار نسمة. لكن بعض المحللين يعتقدون أن المملكة تعتقد أن هذه القمة تخطط لاستهدافها من خصومها في المنطقة إيران وقطر وتركيا.
وذكرت وكالة الأنباء السعودية الرسمية أن اتصالا هاتفيا جرى بين رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الثلاثاء، أكد العاهل السعودي خلاله أن تلك القضايا يجب أن تناقش عبر منظمة التعاون الإسلامي.
وقال مصدر سعودي إن المملكة تلقت دعوة للحضور لكنها لن تحضر إلا إذا عقدت القمة تحت رعاية منظمة التعاون الإسلامي.
رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي كان من المحركين الأساسيين لعقد القمة مع مهاتير وأردوغان، اتخذ قرارا في اللحظة الأخيرة بعدم الحضور
وأضاف المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مصرح له بالتحدث لوسائل الإعلام “يشعرون بقلق شديد حيال الأمر”، تجاه هذه القمة المثيرة للشكوك.
ويعتقد المتابعون للسياسات التركية أن أنقرة تنظر إلى السعودية كعدو استراتيجي أول لها في العالم الإسلامي ككل، فالأتراك يريدون إحياء الإمبراطورية العثمانية كوصي وحيد على الإسلام السني في العالم.
وهو أمر لا يمكن أن يتحقق في ظل وجود السعودية كقوة إسلامية وازنة وراعية للمؤسسات الدينية الكبرى في مكة والمدينة.
وهذا أحد الأسباب التي دفعت أردوغان إلى التحرك على أكثر من واجهة لإرباك نفوذ السعودية سواء بتحريك جماعات إسلامية سنية لتشويه المملكة والتشكيك في إسلاميتها، أو بالتحالف مع إيران.
خلاف في الرؤية
من المهم الإشارة إلى وجود خلاف جوهري في الرؤية التركية تجاه الإسلام عن الرؤية السعودية، فالأولى تعتقد أن الإسلام يجب تطويعه ليكون في خدمة الأمة التركية تماما مثلما تتعاطى إيران مع التراث الشيعي ليظهر التشيع في صورة أداة ناعمة لتثبيت الهوية التاريخية الفارسية للإيرانيين. أما الثانية، السعودية، فتنظر إلى الدين كهوية روحية تستفيد منها رمزيا وماليا لكن دون أيّ رغبة في التمدد لاعتبار تكوينها التاريخي القائم على رقعة جغرافية ثابتة.
ويريد الأتراك إحياء القوة الناعمة التي استثمروها تاريخيا في تثبيت حكمهم لمنطقة واسعة من العالم تحت عباءة الإسلام العثماني.
وما يعيق استعادة هذا الحلم الذي يتم التسويق له عن طريق المسلسلات التاريخية هو وجود السعودية كقوة رمزية أولى في قيادة الإسلام السني.
ويعكس عقد قمة إسلامية رديفة دون تنسيق مع السعودية، ومحاولة الضغط عليها باستدعاء دول كبرى من حيث عدد المسلمين مثل باكستان وإندونيسيا وماليزيا، النوايا التركية في تطويق الرياض والحد من نفوذها في منطقة حيوية من العالم الإسلامي كان للمملكة فيها نفوذ اعتباري كبير إلى حدود 11 سبتمبر 2001 وانطلاق الحرب على الإرهاب ما دفعها إلى التخلي عن ذلك النفوذ والاكتفاء بالحضور الاقتصادي المجرد من أيّ توظيف سياسي أو ثقافي. وهو الفراغ الذي تريد أنقرة أن تملأه باللعب على الإرث السعودي ذاته، أي تحريك إرث الصحوة الذي تحول لاحقا إلى مخزون للإسلام السياسي بوجهيه الإخواني البراغماتي المناور والسلفي المتشدد الذي مثل أرضية خصبة للإرهاب خلال العشريتين الأخيرتين من القاعدة إلى داعش.
خبراء في الإسلام السياسي يقولون إن تركيا التي نجحت في استخدام الإسلام السياسي العربي لخدمة أجنداتها، تسعى لتوسيع نفوذها إلى الإسلام السياسي في جنوب شرق آسيا
يقول خبراء في الإسلام السياسي إن تركيا التي نجحت في استخدام الإسلام السياسي العربي لخدمة أجنداتها، تسعى لتوسيع نفوذها إلى الإسلام السياسي في جنوب شرق آسيا حيث يجري الحديث عن إمكانيات كبرى خاصة مالية كون هذه الدول تحولت إلى ملاذات دافئة لأموال التنظيم الدولي للإخوان التي تم تهريبها من دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية واللاتينية، تحسبا لتجميدها بعدما أظهرت دول غربية كبرى حزما في مواجهة الاستثمارات المشبوهة والأموال السوداء.
وكشف وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي مصطفى ورانك، في اجتماع عقد بالعاصمة القطرية الدوحة ضمن التحضيرات المتعلقة بقمة كوالالمبور عن أن أنقرة تنتظر أبعد من “التحالف السياسي” ضد السعودية وخططها إلى بناء منظومة استراتيجية ثقافية وإعلامية لتكريس النفوذ التركي من وراء الاتحاد الرديف، أو ما يمكن وصفه بـ”المؤتمر الإسلامي+”.
مهندس الإسلام السياسي
تراهن أنقرة بصفة خاصة على مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي، الذي يوصف بأنه مهندس الإسلام السياسي في ماليزيا ومحيطها، فضلا عن عدائه للسعودية بسبب مزاعم عن دعمها لرئيس الوزراء السابق نجيب عبدالرزاق.
وقال ورانك إن تركيا وماليزيا قطعتا شوطًا كبيرًا في العلاقات الثنائية خلال الآونة الأخيرة، وتعتزمان توقيع اتفاقيات خلال زيارة أردوغان من شأنها تعزيز التعاون بينهما أكثر، وخاصة في المجال الدفاعي، وزيادة حجم التجارة ونقل التكنولوجيا، فضلا عن تنفيذ مشاريع واستثمارات مشتركة في البحث والتطوير والابتكار.
لكن الأهم في هذه الخطط هو “تأسيس شراكة في المجال الإعلامي من أجل مكافحة الإسلاموفوبيا”.
وبالرغم من جاذبية “مكافحة الإسلاموفوبيا”، التي لا يبدو لها أيّ وجود في جنوب شرق آسيا، فإن مراقبين يعتقدون أن المعركة الإعلامية للتحالف الجديد سيكون هدفها الرياض بالدرجة الأولى، خاصة بعد أن أظهرت “السعودية الجديدة” رغبة في بناء علاقات في جنوب شرق آسيا على أساس المصالح وليس على أساس الدين، وهو ما سيساعد في توسيع دائرة علاقاتها ويبدد الصورة القديمة التي كانت تضعها في دائرة الابتزاز.
تشويه الانفتاح
يشير المراقبون إلى أن تركيا ومعها قطر تقفان بقوة وراء الحملات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد سياسات الإصلاح السعودية خاصة في المجال الديني والاجتماعي، وأن هناك خطة دقيقة ومستمرة لتشويه الانفتاح على الفنانين والممثلين الأجانب الذين يزورون المملكة وتسويق هذا الانفتاح على أنه “خروج على الدين”، وأن السعودية لم تعد مؤتمنة على “النموذج الإسلامي”، وهي أجندا خادمة للمقاربة التركية في إظهار “إسلاميتها” ووصايتها على الدين في مقاربته السنية.
ولم يتم نشر أجندة لقمة كوالالمبور لكنها قد تتناول النزاعات القائمة منذ زمن طويل في إقليم كشمير وفي الشرق الأوسط والصراعات في سوريا واليمن ومحنة الروهينغا في ميانمار وتنامي الغضب من معسكرات الصين للمسلمين الويغور في شينجيانغ، وهو ما سيغضب بكين بلا شك.
واتخذ رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي كان من المحركين الأساسيين لعقد القمة مع مهاتير وأردوغان، قرارا في اللحظة الأخيرة بعدم الحضور.
كما تعقد القمة بحضور رئيس إيران حسن روحاني وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في ظل علاقات البلدين المتوترة مع السعودية.
ويلقي غياب السعودية الضوء على بعض الانقسامات التي يعاني منها العالم الإسلامي.
واعتبر جيمس دورسي، كبير الباحثين في كلية سانت راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة، أن هناك كتلتين، واحدة للسعودية وأخرى لتركيا وبينهما باكستان التي تحاول إرضاء الطرفين.
وسيمثل إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان، معروف أمين نائب رئيس الدولة والمشرف على جهود مكافحة التطرف والإرهاب هناك.
وحتى مع وصول الوفود إلى كوالالمبور لم يتمكن مسؤولون ماليزيون من تقديم قائمة نهائية بمن سيحضرون القمة. وقال مكتب مهاتير إن بلاده أرسلت دعوات إلى كل الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، وعددها 56 دولة، لكنّ مسؤولين قالوا إن نحو 20 دولة فقط سترسل وفودا وإن عددا أقل سيكون ممثلا بزعماء.
وأصدر مكتب مهاتير بيانا دفاعا عن القمة وقال إنه ليس هناك نية لتشكيل “تكتل جديد كما لمّح إليه بعض المنتقدين”.
وأضاف البيان “علاوة على ذلك، القمة ليست منصة لمناقشة الدين والشؤون الدينية لكنها لمناقشة أحوال الأمة الإسلامية”.
وعبّر مهاتير في تصريحات أدلى هذا الأسبوع عن إحباطه من عدم قدرة منظمة التعاون الإسلامي على تشكيل جبهة موحدة والتحرك بحسم.
وخلال مقابلة معه أشار الزعيم الماليزي إلى احتمال مناقشة الانتهاكات المزعومة بحق المسلمين الويغور في الصين خلال القمة.
وتصف بكين معسكرات تحتجز فيها الويغور بأنها “مراكز تدريب مهنية” بينما يقول منتقدون إنها معسكرات اعتقال جماعي.
ولا تنفك بيكين تدافع عن رؤيتها في التعامل مع مسلمي الإيغور مفندة الادعاءات والأقاويل التي تروجها البلدان المرتبطة بالأجندات الإسلامية.
وبالنتيجة، فإن القمة الرديفة، ومهما كانت عناوينها التفصيلية، فإن هدفها الرئيس تثبيت الخيار التركي في التوسع على أكثر من جبهة في سياق استعادة الزمن العثماني وصورة "السلطان الفاتح" الذي ما فتئ الرئيس التركي يعمل على الوصول إليه من خلال خلق التوترات وتسويع دائرة الأعداء في المحيط الإقليمي من بوابة التدخلات العسكرية أو توظيف الإسلام السياسي.