تركيا تدفع ثمن الإبادة الجماعية للأرمن

الإبادة الجماعية حقيقة قبلتها رسميا دول كثيرة، لكن تركيا ما تزال تنكرها. وأولئك الذين يقولون إن النظام القضائي في تركيا مستقل، هم نفس أولئك الأشخاص الذين ينكرون الإبادة الجماعية الأرمنية.
الجمعة 2018/10/19
عالم اليوم لن يسمح بحل نهائي مثل الإبادة الجماعية

قدم إطلاق تركيا سراح القس الأميركي أندرو برانسون، بعد تغير تام شهدته السياسة التي تنتهجها حكومة أنقرة، مثالًا آخر على التسامح الكبير للمجتمع التركي مع نفاق وافتراءات وسائل الإعلام والزعماء السياسيين.

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا النمط من إنكار ارتكاب الدولة التركية، ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها، أي فعل خطأ يعود إلى تغطية مذبحة الأرمن في شرق الأناضول والتي وقعت في عام 1915. وقد مهد التخطيط، والتنفيذ، والتغطية، واستمرار إنكار هذه الجريمة الجسيمة الطريق إلى خطابات الدولة التركية ووسائل إعلامها عندما واجهت قضايا مثل القضية الكردية، واختفاء نشطاء ومفكرين، وعمليات التفجير والاغتيالات.

وامتلأت قاعة الاحتفالات في جامعة مكغيل المقامة عند سفح جبل رويال في مونتريال بالحضور عن آخرها الأسبوع الماضي. وكان يتألف الحضور في معظمه من شباب الجالية الأرمنية. وقد اجتمعوا ليستمعوا إلى الأكاديمي التركي تانر أكشام، في مونتريال أثناء تقديم كتابه “أوامر القتل: برقيات طلعت باشا والإبادة الأرمنية”.

وكان طلعت باشا واحدًا من الحكومة الثلاثية التي حكمت الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى وأمر بعمليات قتل جماعي وعمليات ترحيل للأرمن في الأناضول.

وكان الموضوع المطروح ليس ما إذا كان الأرمن قد عانوا من إبادة جماعية. وأي شخص يراقب تركيا عن كثب على مدى الأعوام العشرة الماضية يعرف أن المرء غير مضطر لعمل بحث محفوظات يوما بعد يوم كما كان يفعل أكشام ليبرهن على مسألة الإبادة الجماعية للأرمن.

وهذا لأن عمليات الاغتيال والجرائم التي ترتكب اليوم يُنظر إليها على أن الدولة تغطيها، وتُرتكب على مرأى ومسمع من العامة، وتحمل دليل تقليد سيء لما تم فعله مع الأرمن. فنحن نرى شهادة زائفة لضمان استمرار الدولة، وهي نفس الشهادة التي تم التراجع عنها عندما تزايد الضغط الدولي. ونحن لسنا فقط من يمكنهم أن يروا هذا. فكما توضح قضية برانسون، فإن الولايات المتحدة وباقي العالم يشاهدون هذا أيضًا.

ويكفي النظر إلى أفعال أولئك الأشخاص من ذوي العقلية غير الشريفة بشكل صارخ. ولم يعد من الضروري البحث في السجلات لفهم ما حدث في عام 1915.

ويكفي النظر إلى أولئك الذين قتلوا الطالب الجامعي كمال كوركوت في وسط الشارع في ديار بكر في عام 2017، أو أوغور كورت الذي قُتل خلال حضوره جنازة في إسطنبول في عام 2014، أو النظر إلى الشباب الثلاثة والثلاثين الذين قتلوا في انفجار في سوروج في عام 2015، أو الأشخاص المئة والتسعة الذين قتلوا في أنقرة في نفس العام.

ويكفي أيضًا تذكر الساسة والمفكرين الأرمن الذين تم جمعهم في الرابع والعشرين من أبريل من عام 1915 وقتلهم في شهر يوليو تنفيذا لأوامر طلعت باشا، أو النظر إلى الساسة والمفكرين الأكراد الذين يمكثون في السجون بعد قرن على هذه المذبحة.

والفرق الوحيد هو أن عالم اليوم لن يسمح بحل نهائي مثل الإبادة الجماعية، فعلى الأقل هذا الأمر صعب على مرأى من أوروبا والثمن باهظ.

ولنعد إلى كتاب أكشام وتقديمه.

فالإبادة الجماعية حقيقة قبلتها رسميا دول كثيرة، لكن تركيا ما تزال تنكرها. وأولئك الذين يقولون إن النظام القضائي في تركيا مستقل، هم نفس أولئك الأشخاص الذين ينكرون الإبادة الجماعية الأرمنية.

وليس لدى عامة الناس في المجتمع التركي وجهة نظر في ما يتعلق بالإبادة الجماعية، فوجهة النظر الرسمية يتم قبولها بدون نقاش. ووجهة النظر الرسمية سهلة ويمكن تلخيصها في ما يلي: القضاء التركي المستقل أطلق سراح برانسون، ولا يمكن لأحد أن يمارس أي ضغوط على تركيا، وأولئك الذين يحاربون من أجل البلاد يستحقون الاحترام. ولهذا السبب لم يكن هناك أي خطة منظمة لقتل الأرمن. ولم يكن موتهم إلا نتائج عرضية في وقت الحرب. وأولئك الذين يضعون ويشرحون وجهة النظر الرسمية يرون أنّ أي دليل على هذه الإبادة الجماعية مختلق، وفي نفس الوقت فإنهم يختلقون أدلتهم. وواحد من الأدلة الأكثر أهمية هو ما نشره آرام أندونيان في العام 1921. وكان ما نشره أندونيان عبارة عن برقية رسمية من مذكرات نديم أفندي، المسؤول في الحكومة العثمانية.

وزعمت الحكومة التركية والعاملون في الأوساط الأكاديمية الذين يؤيدون الحكومة لسنوات أن هذه المذكرة تعرضت للتزوير وصدرت عن الأرمن.

ويبرهن بحث أكشام شديد التدقيق على وجود مسؤول عثماني يدعى نديم أفندي، كما تقدم المصادر ذات الصلة. ويبرهن أيضًا على أن نديم أفندي كتب ونشر هذه المذكرات. ويقدم أكشام من خلال بحثه، دليلا إيجابيا على أنه في عام 1915، عندما كان طلعت باشا يخطط للإبادة الجماعية، كان قد بدأ أيضا محاولة التغطية على آثارها.

ويقدم أكشام وثائق عثمانية توضح تزوير أولئك الذين انتقدوا الوثائق، أو أن الطريقة التي كتبوا بها أطروحاتهم عن تقنيات التشفير فيها كانت خاطئة أو تم التكهن بها بصورة بحتة. وقدم أكشام هذا من خلال وثائق من مجلدات كثيرة عثر عليها في سجلات هيئة الأركان العسكرية.

وأولئك الذين يعارضون حكم حزب العدالة والتنمية لا يمكنهم رؤية أن انعدام القانون الذي يعانون منه في تركيا اليوم له جذوره في الإبادة الجماعية. ولا يبدو أنهم يفهمون أن الديمقراطية الحقيقية وسيادة القانون لا يمكن تأسيسهما بناء على أكاذيب وإنكار.

وهم فرحون بحقيقة أن قضية برانسون أوضحت أن الهيئة القضائية التي يفترض أن تكون مستقلة ليست مستقلة، وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يكن قادرًا على الوقوف في وجه الولايات المتحدة. ويغضبون من الأكاذيب التي تنشرها وسائل الإعلام اليوم، لكن لم يضعوا في اعتبارهم قط أن هذه الصحف، المرتبطة بالحكومة، دائمًا ما تقول أكاذيب أكثر خطورة، بداية من الإبادة الجماعية ومرورًا بالقضية الكردية، وصولًا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في شهر يوليو من عام 2016.

وقد ضحكوا عندما قال أردوغان إن تركيا دولة يحكمها القانون، وإن السلطة القضائية مستقلة. لكنهم صفقوا لأردوغان عندما قال إن أسلافه لم يرتكبوا، قط، الإبادة الجماعية وإنها لم تحدث على الإطلاق.

ولا أعرف أي اسم في علم النفس يصف هذه الظاهرة، لكن من الواضح أن هذه ليست حالة عقلية صحية. ويؤدي عدم مواجهة الحقيقة إلى تآكل الديمقراطية والقانون والأخلاق.

ويكفي النظر إلى الحكومة والمجتمع الألماني، اللذين واجها المحرقة النازية (الهولوكوست)، وتركيا، التي تأسست على الإنكار، لمشاهدة النتائج.

9