تركيا أردوغان وتركيا عبدالحميد .. رجل أوروبا المريض

التاريخ يكرر نفسه باستمرار على هذه الأراضي، يكرر نفسه بكل ما به من دكتاتورية، وقمع، وظلم، وإبادات عرقية، لكن النهاية دوما واحدة، ألا وهي الانهيار والسقوط.
الأحد 2018/09/16
التاريخ يكرر نفسه

هؤلاء رجال السلطان عبدالحميد عديمو الخبرة والكفاءة. فإذا كان عبدالحميد لاعب شطرنج، فأردوغان لاعب طاولة عادي يستطيع أن يحرز التقدم إذا حالفه الحظ ليس إلا، أي ليست لديه مهارات سوى إلقاء النرد بطريقة معينة ويترك الأمور للحظ يفعل بها ما يشاء.

لكن السيء في الأمر هو أن تركيا أصبحت مجددا “رجل أوروبا المريض…”، فالاقتصاد ينهار، وبتنا دولة تحوم الشكوك حول قوتها العسكرية؛ لا سيما بعد المحاولة الانقلابية التي شهدتها البلاد يوم 15 يوليو 2016. وحينما وصفت الدولة العثمانية في السابق بـ”رجل أوروبا المريض”، كانت الإمبراطورية العثمانية منتهية تماما عن بكرة أبيها.

على إثر ضعفها أضحت الدولة العثمانية سبب صراع بين دول بريطانيا، وفرنسا، وروسيا من أجل تقاسم ثرواتها. لتأتي اتفاقية سايكس-بيكو وتضع حدا لهذا الوضع. أُبرمت الاتفاقية في 16 مايو عام 1916 وكانت عبارة عن تفاهم سري بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية.

بعد ذلك جاء فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف بلينين، ذلك الثوري الروسي الماركسي قائد الحزب البلشفي، والثورة البلشفية، ليوقف الروس الذين عاثوا في الأناضول فسادا حتى قيام الثورة البلشفية عام 1917، واحتلوا الميناء الذي كانوا يرغبون فيه بالبحر الأسود، وكانوا على وشك احتلال مدينة إسطنبول.

كان ثمة تمرد وعدم استقرار على الجبهة الغربية للروس، إذ وصل الجنود الروس إلى مرحلة ترك السلاح لعجزهم عن الحصول على الذخيرة والطعام، لكن هذا الأمر لم يكن موجودا على الجبهة الشرقية. وحينها جاء لينين، وأنهى الحرب على جميع الجبهات، وسحب الجنود؛ ليكتب بذلك مصيرا جديدا لتركيا.

وإذا نظرنا إلى التاريخ لوجدنا أن هناك حادثين مهمين غيّرا مصير الحرب، أولهما قرار رئيس الوزراء البريطاني سبنسر تشرشل بخصوص حملة غاليبولي أو حملة الدردنيل وهي حملة عسكرية شنتها قوات بريطانية وفرنسية مشتركة خلال الحرب العالمية الأولى بهدف احتلال العاصمة العثمانية إسطنبول، دارت معارك الحملة في شبه الجزيرة غاليبولي على مضيق الدردنيل عام 1915. أما الحادث الثاني الذي غير مصير الحرب، هو الثورة البلشفية في روسيا.

وحتى تلك الفترة، تمكن العثمانيون من البقاء والصمود من خلال استخدام القوى الغربية ضد بعضها البعض، بما في ذلك الألمان. وخشية من سيطرة الروس على المضائق، هبت القوى الغربية لطلب المساعدة من الدولة العثمانية.

وفي الوقت الحاضر، يحاول أردوغان أن يسيّر نفس اللعبة لكن في ظل شروط مختلفة وأكثر فظاظة. فعندما حدث الخلاف مع الولايات المتحدة على الفور يممّ أردوغان وجهه صوب روسيا. كما كان لديه أمل في أن يحصل على دعم من الاتحاد الأوروبي لمواجهة أميركا. وهو الاتحاد الأوروبي الذي اتهمه أردوغان ذاته بـ”النازية”.

ومن المؤكد أن الاتحاد الأوروبي يدرك حقيقة مواقف أردوغان، لكنه يظهر الأمر وكأنه لا يعلم شيئا، وذلك لأن موضوع اللاجئين لا يزال يقف كأحد عناصر التهديد الكبيرة المحدقة به، ولتركيا دور كبير في إثارة هذا الموضوع.

لا ينبغي أن ننسى أن أوروبا لديها القدرة على التعامل مع دولة فاشية كتركيا. هي فقط تتحكم في كل شيء من خلال ترديد معسول الكلمات بين الحين والآخر لتتجنب ورقة اللاجئين، ولأنها تعلم أن وقوع أي فوضى في الأناضول من شأنها أن تهز أركان الاتحاد بأكمله، أي أنها ترى أن استقرار تركيا من استقرارها.

لكن في ظل هذه التطورات، نجد أن أردوغان لا يرى أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عنصران يكملان بعضهما البعض، والعلاقات الجيدة معهما أمر بالغ الأهمية. غير أنه يعتقد أن خلافات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وإدارته معه، ستجعل أوروبا تلبي على الفور كافة طلبات تركيا.

لدى الاتحاد الأوروبي صندوق يقدم من خلاله الدعم المالي والاقتصادي اللازم للدول المرشحة لعضويته، لكن ثمة نوعا من الخلاف بين الدول الأعضاء بالاتحاد بشأن تقديم هذا الدعم لتركيا، وبالتالي ليست هناك نقود لإنقاذ الاقتصاد التركي.

ومن المنتظر أن تقال كل هذه الحقائق في وجه أردوغان خلال زيارته المرتقبة لألمانيا في وقت لاحق من سبتمبر الجاري. سيطلب منه بشكل صريح الابتعاد عن النظام الدكتاتوري، والعودة إلى مسار عملية إصلاح ديمقراطية حقيقية. ومن ثم فإذا كانت لدى أردوغان ورقة اللاجئين، فإن لدى المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، ورقة الرأي العام الألماني، والدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي التي لن توافق مطلقا على مساعدة دولة فاشية.

ثمة مشكلة كبيرة بانتظار أردوغان، ألا وهي أن حليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيدخل محافظة إدلب السورية، ضاربا بتوسلاته عرض الحائط. أما الولايات المتحدة الأميركية، فتتصرف من ناحية وكأن لها علاقات عسكرية جيدة مع تركيا، لكنها على الجانب الآخر تستعد لتعزيز قواعدها العسكرية الموجودة في سوريا، وتسعى لإنشاء قواعد جديدة في كل من اليونان وقبرص.

ومن ثم فإن التصريحات التي دأبنا على سماعها من قبل النظام التركي، من قبيل “الولايات المتحدة لا يمكن أن تستغني عنا”، قد أثبتت ضعفها بمرور الوقت. بالطبع حلف شمال الأطلسي “الناتو”، لا يرغب في خسارة تركيا لصالح روسيا؛ لكن إذا كان سيخسرها حتما فلن يتركها دولة سهلة الاستخدام من قبل موسكو.

ومن يرون أن الأسد سيتجه إلى شرقي الفرات بعد إدلب، وتسوية مسألة الأكراد هناك، فغالبا لا يرون أن الولايات المتحدة تستعد الآن لجعل تلك المنطقة المذكورة منطقة يحظر الطيران فيها بواسطة أنظمة الدفاع الصاروخية، والرادارات المنتشرة.

نحن الآن نشهد بأعيننا نسخة من الدرجة الثالثة لعهد السلطان عبدالحميد، وأخشى ما أخشاه أن تكون فترة السلطان وحيد الدين محمد السادس (الذي تولى العرش بعد السلطان عبدالحميد) قد أتت. ولعل أكبر مؤشر على ذلك أن صهر أردوغان، براءت البيرق، قد حل محل الداماد فريد باشا زوج شقيقة السلطان عبدالحميد الذي كان هو الآخر رئيسا للوزراء في عهد السلطان وحيد الدين محمد السادس.

وهكذا يتأكد لنا أن التاريخ يكرر نفسه باستمرار على هذه الأراضي، يكرر نفسه بكل ما به من دكتاتورية، وقمع، وظلم، وإبادات عرقية، لكن النهاية دوما واحدة، ألا وهي الانهيار والسقوط.

5