تراجع نتفليكس قد يسقط عالم الترفيه في الضحالة

تتعاظم ضغوطات الحياة على الفرد كلما تقدمت الإنسانية أبعد في أنظمة الإنتاج والتشابك الاجتماعي والانفتاح الاتصالي وتحول العالم إلى مساحة واحدة تلغى داخلها الحدود الثقافية والعرقية والإثنية وحتى اللغوية وغيرها ووسط سيول جارفة من المعلومات والأخبار، ضغوطات صار معها فعل الترفيه ضرورة ملحة، الترفيه هذا ما وعدت به منصات البث التدفقي، فهل نجحت فيه؟
أنبأت ولادة منصات البث التدفقي لواجهات ترفيهية تقدم بشكل أساسي المسلسلات والأفلام وبعض البرامج، بتغيير جذري في عالم الترفيه والإنتاج السمعي البصري، إذ اعتبرها كثيرون خليفة التلفزيون الذي انتهى عصره، لكن الأمور لا تسير بتلك النظرة القدرية التي يطلقها الكثيرون تجاه المستقبل القريب والبعيد.
تمثل نتفليكس أكبر منصات البث العالمي والأولى في هذا المجال، وقد تحولت معها مواد الترفيه الفنية والثقافية من مجرد عرض أفلام ومسلسلات إلى إنتاجها بميزانيات ضخمة وكفاءة عالية، جعلها تهدد عرش المنتجين التقليديين أمثال استوديوهات هوليوود، فيما تعد مشتركيها بالانفتاح أكثر على ألعاب الفيديو ومواد ثقافية وترفيهية أخرى. لكن يبدو أن الواقع يفرض سطوته بعد التراجع الكبير للمنصة.
بعد خطوات متلاحقة يبدو أن نتفليكس ستقبل عليها في المرحلة القادمة، وذلك بعد إعلانها في أبريل الماضي عن تلقيها لضربة مالية قاسية بسبب خسارة كبيرة في عدد المشتركين، إذ أكدت فقدانها لـ200 ألف مشترك خلال الربع الأول من هذا العام، وقد تراجعت قيمة أسهم نتفليكس بنسبة 35 في المئة بعد أن كشفت عن انخفاض حاد في عدد المشتركين وحذرت من أن ملايين آخرين على وشك إنهاء اشتراكاتهم، أعلن عملاق البث الأميركي أنه سينتهج جملة من الإجراءات للخروج من الأزمة، إذ ستقوم الشركة بحملة ضد مشاركة كلمات السر والتضييق على هذه الميزة، التي كان يمكن بموجبها استخدام حساب واحد من أكثر من شخص بتشارك كلمة السر.
تراجع مخيف
كما تسعى الشركة لرفع أسعارها بشكل أكبر، وهي معضلة أخرى ستواجهها وقد تتسبب في خسارتها لمنخرطين من الطبقات الأقل قدرة على الدفع، لكن الشركة أعلنت أنها تنوي تقديم نسخة أرخص تتضمن عرض الإعلانات التجارية، وتلك معضلة سنأتي لذكرها لاحقا.
ويتخوف كثيرون من تراجع إنتاجات نتفليكس سواء من حيث الكم أو المحتوى، وهو ما لم يتأخر كثيرا بإعلان المنصة عن إلغاء سلسلة رسوم متحركة تنتجها ميغان ماركل زوجة الأمير هاري، والتي كان من المفترض أن تنتجها الشركة في إطار عقد لصنع المحتوى وقّعه الزوجان معها.
ويبدو أن الأشهر القليلة القادمة ستشهد تغييرات هامة في عمل عملاق البث التدفقي، فإدخال الإعلان والتقليل من الإنتاجات ومن تكاليف الإنتاج سيصاحبهما بالضرورة تدنّ في مستوى المادة المقدمة، وبالتالي تراجع الجوانب الفنية لصالح عناصر الإبهار ومحاولات إغراء المشاهدين وجذبهم في سيطرة للجانب التسويقي على القيمة الفنية والجمالية والفكرية وعلى التنوع الذي نجحت المنصة نوعا ما في ترسيخه.
طبعا لا نطالب منصة تنتج مادة ترفيهية بالالتزام بشروط النخب الثقافية والفنية، وتقديم مواد رهانها الفن قبل كل شيء آخر، لأنها في الحقيقة منصة تبيع مواد فنية ترفيهية، تحاول إرضاء مختلف الأذواق ولذلك تنوع ما تعرضه من دراما وأفلام سواء ما تنتجه هي أو ما تقتنيه للعرض. لكن لا يمكن لمادة فنية ترفيهية لا تحقق الجودة أن تصمد.
أن يتحول فعل راق كالترفيه إلى لعب بالجماهير بمواد مفتعلة ومصدر أمراض نفسية أمر ينبئ بفشل كبير
وتمكنت نتفليكس على امتداد السنوات الأخيرة وخاصة مع فترة الجائحة وإغلاق قاعات السينما من كسب الملايين من المشتركين لتحتل صدارة منصات البث التدفقي في العالم وتغير جذريا من مفهوم الفرجة والترفيه وحتى من طبيعة الإنتاج الذي لم يعد يرضخ للدائرة التقليدية.
لم تصمد استماتة أكبر المهرجانات ضد هذه المنصات، حيث تمكنت من اقتحامها ومن نيل أهم جوائزها، لعل أهمها الأوسكار مؤخرا التي آلت لفيلم “كودا” الذي تبنته منصة "أبل تي.في+"، لكن هل تساهم المنافسة في ما بينها في تحسين هذا السوق؟
تحججت نتفليكس في إجراءاتها الأخيرة بالمنافسة الشديدة مع منصات مثل "وارنر بروس" و"ديسكافري" و"والت ديزني" و"بارامونت غلوبال" و"أبل تي.في+" وغيرها من التي اقتحمت هذا العالم بإنتاج أعمال هامة، لكن يبدو أن المنافسة المحتدمة ستنعكس على مستوى الأعمال المقدمة وحتى على نوعيتها، إذ من المرجح أن تغرق كثير منها في التجارية الفجة، التي لا يعنيها سوى حصد الربح على حساب أي شيء آخر حتى استمرار وجودها.
من جهة أخرى تثير هذه المنصات سؤالا كبيرا في ما يتعلق بالترفيه، فهي تلغي أهم جانب من جوانب السينما مثلا، ألا وهو الجانب الاجتماعي المتعلق بالذهاب إلى قاعات العرض والاحتكاك بالآخرين وأجواء العرض المشترك وما يحيط به من لقاءات وتفاعل، وحتى شحنة عاطفية وتقاطعات فكرية وغيرها.
واقع عربي وآفاق
في الجانب العربي تعددت منصات البث التدفقي مثل “شاهد” وغيرها، وقدمت مواد درامية خاصة مهمة، ولكن أغلبها مجاني، أو هو لم يحقق التكامل الذي يمكنه من إنتاج أعمال خاصة أو حتى المنافسة في العرض.
الحواجز كثيرة لعل أبرزها الضعف التقني في الكثير من البلدان العربية، ولعل ما أقدم عليه أحد المستثمرين في الترفيه في تونس مثلا من إنتاج منصة باسمه وتعطلها منذ أول يوم، أبرز دليل على نقص في الجوانب التقنية لإنجاز منصة يمكنها تلبية حاجيات المشاهدين، والمشاهدون أنفسهم لا يتمتع أغلبهم بتدفق كاف للإنترنت لمشاهدة المواد، ومن ثم غلاء سعر الاشتراكات في شبكة الإنترنت، وتغول شركات الاتصال التي تتصرف بلا رقيب وتدني القدرة الشرائية، كلها تساهم في عدم تطور فكرة المنصة.
وما تزال صناعة الترفيه في البلدان العربية قاصرة في شقها التقليدي فما بالك بالانفتاح التكنولوجي، وهذا مفهوم نوعا ما بسبب المستوى الاقتصادي الذي يجعل الترفيه مطلبا بعيد المنال أحيانا، رغم أهميته الملحة اليوم للتوازن الذاتي والاجتماعي.
ونشهد بين حين وآخر مبادرات شبابية مميزة لخلق نوع من الترفيه من خلال عروض حية أو مواد ثقافية أو ترفيهية مبتكرة، لكنها يجب أن تلقى الدعم لتتطور.
صناعة الترفيه في البلدان العربية لا تزال قاصرة في شقها التقليدي فما بالك بالانفتاح التكنولوجي وهذا مفهوم نوعا ما
إن عالم الترفيه مشتبك ضرورة بعالم الفن، والتكامل بينهما من شأنه أن يخلق سوقا فنية هامة، ويساهم في تطوير الفن وتحقيق الانتعاش الاقتصادي، ولنا مثال على ذلك في مجال إنتاج السينما وما تخلقه من مواطن شغل وما توفره من حراك اقتصادي علاوة على تأثيرها السياحي والثقافي.
نجحت منصات البث التدفقي في خلق صناعة ترفيهية متكاملة، ولكنها قد تشهد تراجعا كبيرا في مستوى ما تقدمه لتجتذب جمهورها بطرق أخرى، وهو ما يحقق ربما الغاية التجارية ولكن الترفيه ليس بتلك البساطة، الترفيه يرقى إلى التطهير الأرسطي، إنه فعل يلتقي فيه الضحك بالبكاء والخوف بالتشوّق والتفكير بالارتياح والانبهار بالاشمئزاز وغيرها من المشاعر الإنسانية على تناقضها، وأن يتحول فعل راق كالترفيه إلى لعب بالجماهير بمواد مفتعلة أمر ينبئ بفشل كبير.
من ناحية أخرى، بقدر ما فتحت المنصات آفاقا في عالم الترفيه بقدر ما خلفت العزلة والاضطراب النفسي لدى كثيرين ممن جعلت منهم مستهلكين وحيدين في ظلام الغرف أو مقيدين إلى شاشات الهواتف وكائنات تضمحل في ذواتها شيئا فشيئا، وهو ما يخلق رهانا آخر حول مدى صحيّة هذه الواجهات الترفيهية.
ولا تعارض بين وسائل العرض التقليدية والوسائل الحديثة التي يجب أن تتكامل لا أن يلغي أحدها الآخر، وهذا ما يحتم تدخل الدولة من خلال التوعية والدعم.