تراث نابليون المثير للجدل في الشرق بين نار وتنوير

عبور نابليون بونابرت غزة يبقى فصلا غير معروف في حملته المثيرة للجدل إلى مصر والمشرق ورغم ذلك ترك آثارا في الضمائر وعلى بعض جدران المنطقة.
الاثنين 2021/05/03
هل كان نابليون غازيا فقط

تمر هذه الأيام الذكرى الـ200 لوفاة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، الذي قاد أول حملة عسكرية على الشرق في العصر الحديث، والتي لا تزال آثارها ماثلة في مصر، وهي كذلك مثار جدل بين من يراها غزوا بحتا وبين من يقر بالجانب الثقافي الهام الذي خلّفته إضافة إلى تأثيراتها في بداية النهضة العربية.

القاهرة- طبعت الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام بقيادة نابليون بونابرت تاريخ المنطقة، ومهدّت لحقبة الاستعمار الحديثة، وتركت إرثا مثيرا للجدل على الرغم من إسهامات أكيدة لعلماء شاركوا فيها.

وقد استمرت الحملة الفرنسية على مصر ثلاث سنوات. ففي 19 مايو 1798، غادر 38 ألف جندي فرنسي طولون على متن أكثر من 300 سفينة في سرية تامة ولم يكونوا يعرفون وجهتهم بل علموا بها وهم في البحر. فيما أصبح لاحقا أشهر حملة عسكرية في التاريخ الحديث.

النار والتنوير

يقول الكاتب المصري محمد سلماوي إن الحملة الفرنسية على مصر كانت مزيجا من “النار والتنوير”، فهي من ناحية حملة عسكرية إمبريالية، ومن ناحية أخرى أتت بالعلوم والتقدم.

ومع اقتراب الذكرى المئتين لوفاة نابليون بونابرت في الخامس من مايو، يشرح سلماوي أن “الحملة كانت عسكرية بالتأكيد، وكانت هناك مقاومة مصرية ضد القوات الفرنسية، ولكنها كانت كذلك بداية عصر من التقدم الفكري والتنوير”.

رشاد المدني: الأكيد أن بونابرت احتل غزة التي كانت في حينه مركزا لإنتاج العسل والزيت والزراعة

ووثّق علماء الحملة في عمل موسوعي “وصف مصر” كلّ ما يتعلق بالمجتمع والتاريخ الطبيعي والإنساني للبلاد. وأدى اكتشاف جنود فرنسيين لحجر رشيد في ممفيس في مصر، الذي حفر عليه مرسوم ملكي بثلاث لغات، اللغة المصرية القديمة أو الهيروغليفية، والهيراطيقية، واليونانية القديمة، إلى فك شيفرة اللغة الهيروغليفية ونشأة علم المصريات.

في فترة لاحقة، كان مؤسس الدولة الملكية الحديثة في مصر محمد علي، بمثابة “منفذ وصية” بونابرت في مصر، لأنه استخدم العلوم التي أتت بها الحملة لإقامة دولة حديثة، على حد تعبير الصحافي الفرنسي ذي الأصول المصرية روبير سوليه.

ويقول سوليه “في عصر الملكية (1804-1952)، كان التركيز منصبا على ما أتت به الحملة من إضافات علمية وسياسية”، باعتبارها نتاج فلسفة التنوير التي أطلقتها الثورة الفرنسية.

ولكن منذ الثورة الناصرية في العام 1952، هيمنت النزعة القومية وبات ينظر إلى الحملة الفرنسية على أنها “مرحلة ضمن مراحل أخرى من تاريخ مصر”، وفق سوليه.

ويعتقد سوليه أن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر لم يكن يرى في هذه الحملة “إلا أنها أيقظت الشعور الوطني” من خلال المقاومة التي تشكلت ضدها. ويضيف الكاتب أن حملة بونابرت “كانت أول عدوان إمبريالي في العصر الحديث ضد الشرق المسلم”.

وبعيد الإنزال الفرنسي في يوليو 1789 بالقرب من الإسكندرية، وضع بونابرت لافتات على جدران المدينة كتب عليها “أيها المصريون، سيقولون لكم إنني أتيت لتدمير دينكم، هذه كذبة. لا تصدقوهم”.

وأكد الجنرال بونابرت الذي لم يكن قد أصبح إمبراطورا بعد، على اللافتات نفسها أنه “يحترم النبي محمد والقرآن الكريم”. ولكنه أضاف “بئس من سيقاتلون ضدنا، هؤلاء لا خيار أمامهم، سيموتون”.

وكانت الغلبة للقمع على التسامح الديني بعد ذلك. وقمع بونابرت بلا هوادة ثورة القاهرة في العام 1789، فقتل الآلاف من المصريين في المعارك أو أعدموا. وتعرض الجامع الأزهر لقصف وهجوم من القوات الفرنسية.

وفي تعليق مكتوب له قال أستاذ التاريخ في جامعة الأزهر الحسين حسن حماد إن الحملة الفرنسية “هي أول غزو عسكري أوروبي لبلد عربي إسلامي في التاريخ الحديث”.

وأشار إلى أن الأزهر كان “يمثل مركز القيادة” لثورة القاهرة ضد الحملة، “وتحمّل شيوخه كعادتهم مسؤولية قيادة مقاومة الأمة على جميع المستويات طوال السنوات الثلاث” لوجود قوات بونابرت في مصر.

وأشار حماد إلى “بعض الآثار الإيجابية” للحملة “كإدخال الطباعة ووضع كتاب ‘وصف مصر’ وإنشاء المجمع العلمي”، مشددا على أن هذه الجوانب الإيجابية “تمت بدافع خدمة الوجود الفرنسي وتنظيم إدارة البلاد والإفادة من خيراتها وثرواتها”.

محمد سلماوي: الحملة الفرنسية على مصر كانت مزيجا من “النار والتنوير”، فهي من ناحية حملة عسكرية إمبريالية، ومن ناحية أخرى أتت بالعلوم والتقدم

وتقول ماريان خوري، المنتجة التنفيذية لفيلم “وداعا بونابرت” ليوسف شاهين (1985)، إن الحملة الفرنسية “لا تزال تثير الكثير من الجدل”. ويتناول فيلم يوسف شاهين التقدّم الذي يمثله الجنرال كافاريللي (أدى الدور ميشال بيكولي) مقابل القوة العسكرية التي يمثلها بونابرت (أدى الدور باتريس شيرو).

وتقول خوري إن البعض في مصر يقرّون بالتقدّم العلمي الذي جاءت به الحملة. وتستطرد “لكن في الوقت ذاته، هناك الجانب الاستعماري الذي لا يزال حساسا ولا يقبله الكثير من المصريين”.

وتشير إلى أن الفيلم “لم يلق ترحيبا في مصر” ولا في فرنسا. وتقول “هناك فرنسيون تعاملوا مع الفيلم باستهجان: كيف يجرؤ شاهين، وهو مخرج عربي، على الحديث عن بونابرت وإسقاط هالته؟ بالنسبة لهم، كان ذلك غير مقبول”.

محطات رئيسية

تم إنزال الحملة التي قادها الجنرال الشاب بونابرت (29 عاما) بالقرب من الإسكندرية ليلة الأول إلى الثاني من يوليو 1798 بعد السيطرة على جزيرة مالطا في البحر المتوسط.

وكانت الحملة تهدف إلى قطع طريق الهند على البريطانيين. ورافق الجيش قرابة 160 عالما ومؤرخا ومهندسا أتوا لدراسة البلد ووصفه. بعد الإنزال بقليل، كسب الفرنسيون المعركة التي سميت بمعركة “الأهرامات” والتي انتهت بتدمير النظام السياسي للمماليك الذين كانوا يحكمون مصر في ذلك الحين.

غير أن سَرية الأميرال البريطاني هوراشيو نيلسون تمكنّت من تحديد موقع الأسطول الفرنسي في أبوقير وتدميره. ووجد الجيش الفرنسي نفسه معزولا في مصر.

وحاول بونابرت في العام التالي الوصول إلى بلاد الشام شرقا ولكنه اضطر إلى التراجع والانسحاب. ولدى عودته من بلاد الشام، استطاع أن يصدّ محاولة إنزال قام بها العثمانيون بمساعدة البريطانيين عام 1799 في أبوقير.

عاد الجنرال بونابرت إلى فرنسا بعد ذلك. وبسبب براعته في الدعاية، قدّم نفسه باعتباره منتصرا في معركة الأهرامات وفي معركة أبوقير، قبل أن يستولي على السلطة في فرنسا بانقلاب في التاسع من نوفمبر 1799.

ترك بونابرت جيشه في مصر وعهد بقيادته إلى الجنرال جان باتيست كليبر الذي اغتيل في العام 1800. وخلفه في قيادة الحملة الجنرال جاك دومونو. في أغسطس 1801، استسلمت القوات الفرنسية بعد هجوم عثماني بريطاني جديد. وعادت بعد ذلك إلى بلادها على متن سفن بريطانية.

 المرور من غزة

حملة بونابرت كانت أول عدوان إمبريالي في العصر الحديث ضد الشرق المسلم
حملة بونابرت كانت أول عدوان إمبريالي في العصر الحديث ضد الشرق المسلم

يبقى عبور نابليون بونابرت في غزة فصلا غير معروف في حملته المثيرة للجدل إلى مصر والمشرق. ورغم ذلك، ترك آثارا في الضمائر وعلى بعض جدران غزة.

في فبراير 1799، اجتاز نابليون، على رأس الآلاف من الجنود الفرنسيين صحراء سيناء ليحتل غزة حيث “أشجار الليمون والزيتون والأرض غير المستوية تشبه تماما المشهد في لانغدوك” في جنوب فرنسا، وفق ما كتب في وقت لاحق.

وكتب عالم الرياضيات إتيان لوي مالو الذي رافق الحملة في ذكرياته “التلال التي تحيط بغزة مكسوة بأشجار الزيتون”، مشيرا إلى أن الفرنسيين استولوا على غزة “من دون أي مقاومة”، قبل أن يتابعوا طريقهم إلى يافا التي شهدت معارك دامية واجتاحها الطاعون، ثم ليصلوا إلى عكا، ويعودوا أدراجهم.

تغيرت غزة كثيرا منذ ذلك الوقت. فمكان أشجار الزيتون، تمتد اليوم غابة أبنية من الإسمنت الرمادي. وقطاع غزة الذي كان في تلك الأيام باب فلسطين، بات قطاعا محاصرا منذ 2007 من إسرائيل تسيطر عليه حركة حماس الإسلامية، ويعيش فيه حوالي مليوني شخص. لكن هناك أثر باق من نابليون في قصر الباشا، وهو قصر حجري صغير محاط بأشجار النخيل، وفيه غرفة يقال إن بونابرت نام فيها “ثلاث ليال”.

يؤدي سلم خارجي عريض إلى الطابق الأول والوحيد من القصر، وفي أعلاه إلى اليسار غرفة من دون سرير. ويؤكد مدير قسم التاريخ في الجامعة الإسلامية في غزة غسان وشاح أنه المكان الذي نام فيه نابليون. وتغير اسم القصر الذي بني في القرن الثالث عشر. قبل سنوات، كان يحمل اسم نابليون، لكن حكومة حركة حماس غيرته في العام 2010 ليصبح “متحف قصر الباشا”.

قبل وباء كوفيد – 19، كانت مجموعات من التلامذة الفلسطينيين تزور القصر وغرفة نابليون وتستمع إلى شرح عن مرور من أصبح لاحقا إمبراطور فرنسا، في فلسطين.

ويقول وشاح “في البداية، كنا ندرّس أن الحملة العسكرية الفرنسية على مصر فيها جانب علمي. وكان هذا الجانب إيجابيا، إذ كان يؤشر إلى حملة عسكرية مختلفة عن غيرها”. إلا أن هذا الخطاب تغيّر مع مرور السنين. ويقول وشاح إن نابليون “استخدم العلم لتبرير الاحتلال. لقد كذب”. ويضيف أن الرجل “تسبّب بفوضى كبيرة في المنطقة”، وأن سكان غزة “يحتفظون بصورة قاتمة وسلبية عن كل الحملات العسكرية بما فيها حملة نابليون”.

الحملة كانت غزوا لكنها تركت بعض الآثار الإيجابية كإدخال الطباعة ووضع كتاب «وصف مصر» وإنشاء المجمع العلمي

ويقول أستاذ التاريخ المتقاعد رشاد المدني “ليس واضحا مئة في المئة إن كان نابليون أمضى ليلتين أو ثلاث ليال في غزة”، مشيرا إلى أن “الأكيد أنه احتل غزة التي كانت في حينه مركزا لإنتاج العسل والزيت والزراعة. كانت نقطة إستراتيجية بين آسيا وأوروبا”.

ودرّس المدني حملة نابليون في الجامعات الغزوية. وردا على سؤال عن خلاصة الدرس، يجيب “الاحتلال الفرنسي كان أسوأ من الاحتلال الإسرائيلي”، مشيرا إلى “مجزرة” قتل فيها الجنود الفرنسيون حوالي ثلاثة آلاف شخص في يافا.

أما “بطل” كتب التاريخ في غزة لتلك الحقبة، فهو والي عكا أحمد باشا الجزار، وهو رجل معروف بـ”قسوته”، قاوم في عكا لمدة شهرين في مواجهة هجمات نابليون.

اليوم، لا تزال قلعة عكا قائمة. ويجتذب تمثال لنابليون على حصان وجامع الجزار في وسط المدينة، السياح، في الزمن العادي. ويقول المدني “في كتب التاريخ عندنا، أحمد الجزار شخصية قوية، وبطل. لكنه كان أيضا شخصا قاسيا، معتديا. وكان تلامذة كثر لا يحبذون أن أقول هذا”.

14