تداعيات تسجيل نادر

قارئ المقام العراقي يوسف عمر لعب دورا مهما في أن يتجاوز غناء المقامات العراقية محيطا اجتماعيا محدودا، فانفتح به على جمهور واسع جدا، مازال يستمع إلى تسجيلاته ويبحث عنها.
السبت 2018/07/28
يوسف عمر هو الأكثر شعبية بين قارئي المقام في القرنين الأخيرين

وصلني أخيرا، من الصديق الدكتور سعد قرياقوس الذي لم يبخل علي بالفريد والنادر من التسجيلات والكتب والدوريات، تسجيل نادر لقارئ المقام العراقي الكبير يوسف عمر، يقرأ فيه مقام “نهاوند” مرددا قصيدة مطلعها:

والله ما شرقت شمس وما غربت/ إلا وذكرك مقرون بأنفاسي

ويختم المقام، كما يفعل قراء المقام دائما، بأغنية “يا زارع البزرنكوش” وتنسب القصيدة إلى الحلاج، وهي من الشعر الصوفي، وهناك من يقول إن المخاطب فيها هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد غناها مقاميون كثيرون ومطربون معروفون، كنت أحتفظ بمكتبتي الصوتية التي ظلت في بغداد بالكثير منها وما عدت أعرف مآلها. أما أغنية “يا زارع البزرنكوش” فليس من قارئ مقام في العراق إلا وغناها، ومطلعها: يا زارع البزرنكوش ازرع لنا حنة.

والبزرنكوش نوع من أنواع الورود، وهو جميل وذو رائحة طيبة، ويقال: إن أحدهم سافر إلى مدينة إسطنبول وجلب معه بذور هذه الوردة وأهداها إلى صديقه ليزرعها في حديقة بيته، ولأن هذا الصديق قد غزا الشيب رأسه، فقال: يا زارع البزرنكوش ازرع لنا حنة، والحناء كما هو معروف، كانت أشهر خضاب للشيب.

وإذا كان محمد القبانجي أعظم قارئ مقام في القرنين الأخيرين، فإن يوسف عمر هو الأكثر شعبية بينهم، ولعب دورا مهما في أن  يتجاوز غناء المقامات العراقية محيطا اجتماعيا محدودا، فانفتح به على جمهور واسع جدا، مازال يستمع إلى تسجيلاته ويبحث عنها ويحتفظ بها، ومن النادر أن تجد عراقيا مقيما خارج وطنه لا يحتفظ بتسجيلات له، وبخاصة تسجيلاته في سهرات خاصة.

لقد ربطتني به علاقة صداقة، مصدرها إعجابي الشديد بصوته وأدائه واختياراته من الشعر، وقد بدأت هذه العلاقة في سبعينات القرن الماضي، حيث جمعنا معا وفد ثقافي عراقي إلى – الاتحاد السوفييتي – وفي العاصمة الأذربيجانية “باكو” أقيم حفل غنائي، شارك فيه أهم قراء وقارئات المقام، وهم كثر في أذربيجان، لكن يوسف عمر فاجأنا جميعا حين غنى باللغة التركية، فأذهل كل من كان في الحفل من مطربين وموسيقيين ومستمعين، وبخاصة أعضاء الوفد الثقافي العراقي، وعرفنا يومها أن والدته من مدينة إسطنبول، لذا فهو يعرف اللغة التركية، وأذكر أن الصحافة الأذربيجانية كتبت عنه وأشارت إلى فرادة أدائه وجمال صوته في مانشيتات على صفحاتها الأولى.

ومن مفارقات هذه الرحلة، اكتشافي أن صديقي الشاعر الكبير سامي مهدي، يعرف عن فن المقامات وبأدق التفاصيل، كمعرفة الخبراء به، أما المفارقة الأخرى فقد كانت في موسكو، ففي حفل غنائي صباحي شارك فيه يوسف عمر ومطرب كلاسيكي روسي، وحين أنهى يوسف عمر ما اختار من مقامات، ختمها بأغنية – بسته – جاء فيها:

أريد اضمن الجسرين من دولة الروس

آخذ عبر بوسات ما آخذ فلوس

وإذ كنت أجلس في أحد المقاعد الأمامية، فقد أشَّر لي بيده، بمعنى، هل كان موفقا في اختياره هذا؟ ومن المعروف أن الجسور في الماضي كانت تؤجر من قبل الدولة لأحد الأشخاص وكان ذلك الشخص يستوفي مبلغا من المال عن عابري الجسر وحيواناتهم. وقلت يومها في نفسي ساخرا “الحمد لله أنها جاءت في أغنية، ولو جاءت في حوار سياسي لتسببت في أزمة دبلوماسية”.

والتقينا يوما في أواسط الثمانينات في العاصمة السويدية، إذ كان قد جاء للعلاج وجئت في دعوة من مؤسسة نوبل أيام كنت أمينا عاما للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، واستمعت إليه مع عدد من العراقيين، وكان في بداية تراجعه الصحي، غير أنه لم يفقد جمال صوته وقدراته في الأداء، بل ظل كذلك حتى أيامه الأخيرة حيث توفي في العام 1986 رحمه الله.

14