تحول الأوقاف إلى مؤسسة ربحية يثير غضبا برلمانيا في مصر

لا تزال الساحة الدينية في مصر تعاني العديد من النقائص التي قد تؤثر سلبا على البعد الروحي والإيماني في البلاد وتعيد فتح الطريق أمام المتشددين. وتحتاج الإستراتيجية الدينية للحكومة المصرية إلى مراجعة الأولويات والأهداف.
القاهرة – أظهر غضب برلماني في مصر ضد تحول وزارة الأوقاف المعنية بإدارة شؤون المساجد إلى مؤسسة ربحية تساؤلات عديدة حول دورها الدعوي، وإلى أي درجة بلغ الامتعاض منها بسبب غياب دور المساجد ونقص الأئمة والخطباء والدعاة مقابل التركيز على تعظيم أموال الوقف الإسلامي كي تظهر الوزارة أمام الحكومة كأنها مؤسسة تُدر دخلا ولديها ملاءة مالية قوية.
واستدعى مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان) وزير الأوقاف مختار جمعة مؤخرا على وقع استمرار غلق المئات من المساجد بداعي الصيانة والترميم، في حين أن هناك مئات أخرى تعاني من نقص غير مسبوق في الدعاة، بما يمهد الطريق لعودة السلفيين إلى المشهد من بوابة تعويض عجز الأوقاف، على الرغم من أن الحكومة سعت خلال السنوات الماضية إلى إقصائهم من المشهد الدعوي.
واتهم نواب في مجلس الشيوخ الوزير مختار جمعة بأنه يركز على الاستثمار في الوقف الإسلامي، وتجاهل وضعية المساجد وتحول الوزارة إلى مؤسسة اقتصادية، وسط مخاطر جمة يمكن أن تترتب على تلك السياسة، على رأسها عودة الفكر المتطرف، مع استعانة المساجد بأئمة يؤدون خطبهم يوم الجمعة مقابل مكافأة مالية، ويتم ترك الناس طوال الأسبوع لشيوخ من خارج الوزارة، لا أحد يعرف توجهاتهم.
وتصنف وزارة الأوقاف في مصر على أنها من الجهات الحكومية الأكثر ربحية وقوة اقتصادية، وتشرف على وقف إسلامي تتجاوز قيمته تريليون جنيه، ومع ذلك تعاني من نقص حاد في الأئمة والخطباء والعاملين بالمساجد، مع أن صافي دخلها السنوي من استثمار الوقف يصل إلى نحو ملياري جنيه، ما أثار غضبا برلمانيا حول الأسباب التي تدفع الوزارة إلى التعامل بتقشف مبالغ فيه مع ملف الأئمة والخطباء.
وقال بعض النواب إن عدد الأئمة في مصر 40 ألفا فقط، مع أن عدد المساجد وصل إلى 150 ألفا، في ظل توسع غير رشيد في بناء المئات من دور العبادة سنويا، بمبالغ مالية ضخمة دون أن يتم تعيين أئمة جدد، وهي إشكالية يستفيد منها سلفيون، يتعمدون فرض أنفسهم على الناس كخطباء بدعوى تعويض العجز، ويصبح الخطاب المتطرف مهيمنا على بعض المساجد التابعة للحكومة.
وفي ظل بناء مساجد ليس بها خطباء وأئمة، فإن الناس قد يكونون مضطرين إلى الصلاة في زوايا صغيرة وأهلية خاضت الحكومة معارك ضارية لانتزاعها من الإخوان والسلفيين في مناطق شعبية وريفية وعلى أطراف المدن، وأغلبها يشيد أسفل عقارات سكنية، ويلجأ إليها مصلون بحجة أن المساجد المجاورة ليس بها عمالة.
وهذه ليست المرة الأولى التي يخضع فيها وزير الأوقاف إلى ما يشبه المحاكمة البرلمانية، وتم استدعاؤه من قبل أعضاء مجلس النواب منذ نحو عام، وطالب بعضهم بإقالته ونقل تبعية المساجد إلى الأزهر لتطوير خطابها وابتعادها عن القضايا السياسية، وتحرير الأئمة من التدخل في شؤونهم، ووقف عزلهم عن الشارع، بعدما تهاوت ثقة الناس في الكثير من المساجد بسبب الجمود والتسييس.
ويعتقد مراقبون أن أزمة وزارة الأوقاف في سعيها الدائم نحو إرضاء أجهزة الدولة ومؤسسة الرئاسة بشكل خاص، ومحاولة الظهور أمام رئيس الدولة بأنها نجحت في مهمة بناء الآلاف من المساجد وتحقيق عوائد ربحية كبيرة، حيث ينصح الرئيس عبدالفتاح السيسي بتعظيم أموال الوقف الإسلامي وإدارتها بطريقة رشيدة، ما جعل الوزارة منخرطة في الاستثمار أكثر من الخطاب الدعوي.
وتوحي المطالبات البرلمانية بنقل تبعية الوقف الإسلامي إلى هيئة مستقلة بأن الإبقاء على نهج الوزارة يتوقف على تحقيق المكاسب المالية، وقد يقود إلى انتكاسات دعوية، وتراجع في دور المساجد وربما عدم السيطرة عليها، مقابل تقديم هدايا مجانية للسلفيين الذين يتعاملون مع المساجد كثغرة يمكن توظيفها لتطوير العلاقات مع الناس.
وجزء من الأزمة أنه تم الإنفاق ببذخ على بعض المساجد وسط ظروف اقتصادية صعبة تعيشها البلاد، في حين لا يتم تعيين أئمة وخطباء لها، ما بدا أن وزير الأوقاف متمسكا بالتعامل مع ملف بناء المساجد كإنجاز عمراني، مع أن مبرراته تثير استياء شعبيا، حيث يوظّف عدد المساجد لتأكيد عدم وجود حرب على الإسلام.
ودأب فلول من جماعة الإخوان والسلفيين على اتهام الحكومة بأنها تحاربهم وتقصقص أجنحتهم كجزء من حربها ضد الدين، ما يفسر الأسباب التي دفعت إلى التوسع في بناء المساجد بشكل مفرط كجزء من سياسة الدفاع عن النظام، وتأكيد اهتمامه بالملف الدعوي، لكن الحكومة بدت كأنها تتحرك في هذا المسار بلا خطة، وأنشأت مساجد لم تجلب لها دعاة يقفون في وجه عودة المتشددين.
وأكد سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، أن لا أحد في مصر ضد التوسع في بناء المساجد، لكن أين فقه الأولويات، وما هي الإضافة الدينية لوجود مسجد ليس به دعاة، في حين أن هناك تيارات تستغل هذا الفراغ لتنصيب نفسها متحدثة باسم الإسلام.
وأوضح لـ”العرب” أن وزارة الأوقاف يفترض أن تكون قدوة في ترشيد الإنفاق ورسم أولويات صحيحة، لكنها تتعامل مع عدد المساجد باعتباره انتصارا سياسيا، حتى أصبحت سببا في التدين الظاهري بالمجتمع، وهذا توجه يتطلب وقفة صارمة، لأن ما يحدث هو ضد مفهوم الدولة المدنية.
الحكومة ليست مطالبة بإنشاء أعداد كبيرة من المساجد لتنفي عن نفسها اتهامات المتشددين، وما يحدث في الملف الدعوي يشي بأنها في موقف ضعف
ولفت إلى أن الحكومة ليست مطالبة بإنشاء أعداد كبيرة من المساجد لتنفي عن نفسها اتهامات المتشددين، وما يحدث في الملف الدعوي يشي بأنها في موقف ضعف، والخطر أن يشعر المتطرفون بالانتصار عندما تكون أمامهم ثغرة للتواجد في المساجد.
وتتعامل شريحة من المصريين مع مضاعفة عدد المساجد دون توفير عمالة لها على أنه نفاق سياسي، بدليل توظيفها في الرد على ادعاءات الإخوان والسلفيين بأن النظام لا يهتم بدور العبادة، وهو توجه يعبر عن ضيق أفق من جانب قيادات الأوقاف، ترتب عليه تعامل غير رشيد مع ملف بناء المساجد دون استخدامها في أغراض دينية.
وما يبرهن على ذلك أن وزير الأوقاف أعلن سابقا إنفاق عشرة مليارات جنيه على المساجد، ومع ذلك يتشدد في تعيين بضعة آلاف من الأئمة والخطباء، حتى بدت تلك المساجد بلا قيمة دعوية، ولم يعط تفسيرا واضحا حول أسباب البناء في غياب التخطيط ودخولها الخدمة، ويعزز التخبط في ترتيب الأولويات.
ويشير متابعون إلى ضرورة التعامل بجدية مع تطوير وتجديد الخطاب الدعوي في مصر، ولا يعتبر التوسع في المساجد إنجازا دينيا للحكومة، لأن ذلك يندرج تحت المتاجرة بالدين لتحقيق مآرب سياسية، والناس لن يتفاخروا بما يمتلك بلدهم من مآذن ومنابر، بقدر ما يتشوقون لخطاب عقلاني لا يعيد الإخوان إلى المشهد.
وتكمن خطورة عدم السيطرة على المساجد في مصر في أنها لا تزال من أهم الساحات التي يمكن من خلالها التأثير على أفكار المواطنين وتوجهاتهم وعلاقاتهم بالآخرين، وإحدى أدوات تشكيل الرأي العام في بعض المناطق لارتباط الناس بالدين.
وأصبح مطلوبا من الحكومة إعادة النظر في سياسة وزارة الأوقاف إذا أرادت ضبط الخطاب الدعوي بما يُحيي سُنة الاجتهاد، ولن يتحقق ذلك قبل أن تتوقف إدارة وتنظيم المساجد وفق رؤى وأهداف سياسية، لأن النتيجة ستكون المزيد من تهاوي صورة الخطاب الدعوي مقابل عودة الارتباط بين المساجد والإخوان والسلفيين.