تحسّن مخزون السدود في تونس لا يلغي خطط التقشف

الحكومة مطالبة بتنفيذ تعهداتها بشأن تقليص الاستهلاك والحفاظ على الخزين المائي في حدوده الدنيا.
الأحد 2025/05/04
الأزمة المتكررة

يطلق المسؤولون التونسيون تصريحات متفائلة بشأن امتلاء السدود بعد نزول الأمطار في الأيام الأخيرة وعلى طول هذا العام، الذي يعد عاما استثنائيا من حيث شمول الغيث النافع البلاد خلال الأشهر الأخيرة على مراحل متعددة، ما يجعل العام “صابة” ويرفع قدرات تونس على إنتاج الحبوب والخضروات ويحسن أوضاع المراعي.

لكن الحديث المتفائل عن الخزين المائي والسنة الزراعية النموذجية لا يمكن أن ينسي الحكومة خططها التي كانت عبّرت عنها في العام الماضي والذي قبله بشأن وضع خطط للتقشف المائي تحسبا لجفاف تنبئ به مختلف التقارير الدولية المختصة بالنسبة إلى السنوات القادمة في تونس.

لا يمكن أن يفكر المسؤول بمنطق المواطن العادي. الأول يلتزم بخطط إستراتيجية والثاني يتعامل مع اللحظة الآنية. وإذا كان المواطن يرى أن نزول الأمطار بكميات كبيرة يبطل تقشف الحكومة، وعلى العكس فهي مطالبة بالنسبة إليه بزيادة الحصص والتخفيض في الأسعار، فإن نزول الأمطار يمثل فرصة جيدة أمام الحكومة لتنفيذ خططها دون ضغوط وأن تصارح الناس بمخاوفها وأن تقدم لهم الأرقام وتشرح المخاطر وتدلل على أنها تفكر فيهم وفي مستقبلهم.

لا يمكن للدولة أن تجاري أمزجة الناس، وحتى وإن كان ذلك يصب في صالحها سياسيا. فيمكن للسياسيين أن يجاروا العواطف والأمزجة، لكن المسؤول الحكومي، حتى لو كان سياسيا أو ينتمي إلى حزب، فمن المفروض أن يتصرف كتكنوقراط ويلتزم بعقل الدولة البارد، الذي يفكر في مستقبل المجموعة بعيدا عن الاستثمار السياسي.

إن اعتماد الأرقام والدراسات مدخلا للحوار مع الناس أهم من ترضيتهم بتمكينهم من استهلاك مريح لفترة ونيل رضاهم وإشادتهم. ذلك أنهم سيعودون مع انقضاء فترة الرخاء ليتذمروا ويحتجوا ويصفوا الدولة بأنها عاجزة، وكان عليها أن تتهيأ لمرحلة الجفاف. وتسبب الجفاف الذي ضرب تونس منذ 2019 وحتى 2024 في انقطاعات متكررة لشبكة توزيع مياه الشرب في عدة مناطق لاسيما في فترة الصيف، وفي تقلص إنتاج الخضروات واللحوم بسبب النقص في الأعلاف، ما تسبب في ارتفاع كبير للأسعار.

◙ الدولة إذا استمرت في تبديد الخزين المائي لترضية الناس، فهي ستخسر على المدى المتوسط فرصة توفير الغذاء لهم من الإنتاج المحلي

وتوقع اتحاد الزراعة أن يغطي إنتاج الحبوب هذا العام حوالي 60 في المئة من الاحتياجات الداخلية مقارنة بمعدل 30 في المئة في السنوات الأخيرة تحت وطأة الجفاف. وقال كاتب الدولة المكلف بالمياه حمادي الحبيب إن الأمطار الأخيرة والتي شملت جميع الجهات، ساهمت كثيرا في تحسين مخزون السدود وتغذية المائدة المائية، متوقعا موسما جيدا للحبوب والزياتين.

ووفق أحدث البيانات بلغ حجم المخزون المائي أكثر من 907 ملايين متر مكعب، بزيادة فاقت 35 مليون متر مكعب متوسط إيرادات السنوات الثلاث الأخيرة. وحتى تاريخ 28 أبريل الماضي تجاوزت نسبة امتلاء السدود 38 في المئة من إجمالي طاقة استيعاب تعادل 2.3 مليار متر مكعب. الفرصة الآن مواتية لوضع إستراتيجيات لحل القضايا التي لا تقبل التأجيل. ولكن بتفكير وخطط بعيدة المدى، وليس بقرارات متسرعة للإيحاء بأن الدولة تمتلك الحلول السحرية. صحيح أن الناس يطربون للقرارات السريعة، وهو أمر لا يقدم ولا يؤخر في ملف مثل ملف المياه في ظروف الجفاف التي تعيشها البلاد.

سيكون من المهم في البداية أن تنفذ الحكومة تعهداتها بشأن تقليص الاستهلاك والحفاظ على الخزين المائي في حدوده الدنيا، سواء في السدود أو تحت الأرض، لكونه قضية أمن قومي مثله مثل الأمن الداخلي وحماية الحدود. تونس بلد حضري فالملايين من التونسيين يعيشون في المدن ويستهلكون كميات كبيرة من الماء، وأحيانا ببذخ كبير غير مفهوم، خاصة أن الدولة عوّدتهم على توفير مياه الشرب بشكل دائم شتاء وصيفا على عكس بلدان إقليمية أخرى تمكن مواطنيها من الماء في أوقات محدود في اليوم.

لكن تونس في حاجة إلى الزراعة أكثر من أيّ وقت مضى، والإستراتيجية المائية التي يشارك فيها الجيش الآن والتي هي من اهتمامات الرئاسة تحتاج إلى إعادة نظر شاملة تقطع مع الاستسهال ومع التبذير وتركّز على ما ينفع الناس على المدى البعيد. وقضية التبذير في استهلاك المياه هي جزء من ثقافة عامة لدى التونسيين تقوم على فكرة أن الدولة مسؤولة عن كل شيء، وهي التي يجب أن تتدبر أمرها في توفير الخدمات المختلفة، وأن توفر الغذاء والمواد الاستهلاكية الضرورية حتى لو كانت هناك أزمة عالمية وحرب بين روسيا وأوكرانيا أهم بلدين منتجين للحبوب في العالم.

عليها أيضا أن تتدبر أمرها في توفير المياه نزلت المطر أم لم تنزل. فهذه الثقافة عليها أن تتوقف، والأمر بيد الدولة التي تأخذ القرار ثم تلغيه أو تؤجل التنفيذ، فهي لا تريد أن تبدو عاجزة أو ضعيفة، وتخاف من الاستثمار السياسي. والأجدى أن تفكر في المستقبل، فالماء لم يوجد فقط للاستهلاك الفردي، ومن المهم أن تهتم الدولة بالزارعة وتضع الخطط التي تمكّنها من تأمين الغذاء على المدى البعيد مع تأكيد الدراسات العلمية أن المنطقة ككل مقدمة على فترات جفاف طويلة.

ويحتاج الخطاب الرسمي أن يربط في التواصل مع الناس بين أزمة مياه الشرب وتقليص الكميات التي توزع على المستهلكين وبين موضوع الزراعة، أي أن الدولة إذا استمرت في تبديد الخزين لترضية الناس والحفاظ على وضع لا يتأثر فيه الاستهلاك الفردي للمياه، فهي ستخسر فرصة توفير الغذاء لهم من الإنتاج المحلي، وأن الأمن الغذائي على المدى البعيد سيكون مهددا كليا.

◙ الخطاب الرسمي يحتاج أن يربط في التواصل مع الناس بين أزمة مياه الشرب وتقليص الكميات التي توزع على المستهلكين

يعرف التونسيون أن الجفاف ضرب الزراعة بقوة، وأن الدولة تستورد الحبوب مع أن تونس بلد منتج وكانت توفر أكثر من نصف حاجياتها بسهولة. ويعرفون أنها باتت تضطر لتوريد الخضروات من دول قريبة مثل مصر. والأمر لا يمكن تفسيره فقط بالجفاف، وإنما لأن الدولة لم تستعدّ لذلك بشكل جيد خاصة في السنوات الأخيرة، حيث تعطلت حركة بناء السدود الكبرى والمتوسطة بعد ثورة 2011 وغرقت البلاد في معارك هامشية وأوقفت خططا حكومية سابقة لتجميع وتخزين مياه الأمطار للشرب والسقي.

وتقلص نصيب الفرد التونسي من المياه إلى ما دون 420 مترًا مكعبًا سنويًا، في حين أن المعدل العالمي لشح المياه هو 500 متر مكعب للفرد. وبدأت أزمة الري في كل تونس نتيجة انخفاض مخزون السدود إلى مستويات قياسية بسبب شحّ الأمطار. وسريعًا ما بدأت آثار الأزمة تظهر، حيث تقلّصت المساحات الزراعية ما يهدد تزويد الأسواق بالمنتوجات الزراعية.

ووفق بيانات للمرصد الوطني للفلاحة، فقد تراجع مخزون المياه إلى 586 مليون متر مكعب حتى يوم 6 أكتوبر الماضي، مقابل مستوى بلغ نحو 788 مليون متر مكعب في نفس الفترة من العام الماضي. وبات معدل التخزين أقل من 30 في المئة في مجمله، ووصل معدل أكبر السدود، وهو سد سيدي سالم في وادي مجردة، شمال البلاد إلى 15 في المئة. وهناك مشكلة أخرى تواجه البلاد، وهي الاستخراج غير المدروس للمياه الجوفية، حيث نشطت المبادرات الخاصة لحفر الآبار في أماكن كثيرة، وبعضها يستعمل للسقي، والبعض الآخر للمياه المعلبة.

وتكاثرت الشركات التي تستخرج هذه النوعية من المياه، ما يكشف عن الاستسهال الكبير في الحصول على الرخص من الجهات الحكومية محليا ومركزيا، خاصة أنها تعطى لرجال أعمال معروفين، ما يؤكد غياب رؤية رسمية تجاه المياه الباطنية أو الجوفية. ولا تمتلك الحكومة دراسات دقيقة عن إمكانيات وحدود المائدة المائية لتونس، وعن مواقعها وحجمها، وهو ما يفسر ترك إدارتها للمبادرات الخاصة بدلا من أن تتحكم فيها هي وتعطي الرخص حسب مقاربة دقيقة.

5