تاتشر تتقلب في قبرها

ثمة إعادة نظر في قضية التأميم. هل تعود الدولة لتستعيد "ملكيتها" من الخواص، أم تحاول إيجاد صيغة توافقية؟ إلى الآن لا توجد إجابات حاسمة.
الخميس 2024/12/05
صانعة العصر الرأسمالي الحديث

يصف الانجليز من يجدون أن إرثه المادي أو المعنوي قد تبدد، بأنه لا شك يتقلب في قبره الآن بعد أن سمع الأخبار. هذا ربما يحدث الآن للسيدة مارغريت تاتشر رئيس الحكومة البريطانية إبان الثمانينات وصانعة العصر الرأسمالي الحديث (بصحبة الرئيس الأميركي رونالد ريغان). أطلقت تاتشر ثورتها الاقتصادية القائمة على تصفية القطاع العام وتفكيكه وبيعه. كانت بريطانيا -وهي أمّ الرأسمالية العالمية تاريخيا- قد قامت على أفكار رأس المال الحر والمبادرة الشخصية والتمويل المصرفي أو بالمساهمة. لكنّ الحربين العالميتين غيرتا كل شيء، ووجدت بريطانيا ومعها الكثير من البلدان نفسها أمام تحدي استرضاء الجنود العائدين والنساء اللواتي يزاحمن على فرص العمل. عندما وصلت الحكومة العمالية إلى السلطة بعد انتهاء الحرب، بدأت حملة التأميم، وكان القطاع العام هو الملك المتوّج للاقتصاد. بعد فترة قصيرة، بدأت مشاكل القطاع العام تطفو على السطح لاعتبارات كثيرة، ثم خنقت النقابات الاقتصاد بالإضرابات، ووصلت بريطانيا إلى حافة الانهيار. كان الوقت قد حان لوصول تاتشر وثورتها الاقتصادية، وتم تفكيك القطاع العام بالكامل.

من أواخر المؤسسات التي تم بيعها للقطاع الخاص كانت شركة “حديد بريطانيا-بريتيش ستيل”. كانت مؤسسة ترتبط في الذهن بالثورة الصناعية من حديد وفحم ومناجم وعمال. لكن تاتشر تمكنت في آخر سنة من حكمها تقريبا، عام 1988، من بيع بريتيش ستيل. الثورة الاقتصادية لتاتشر أصبحت مفردة في قاموس أوكسفورد. عندما تقول “تاتشرية” فإنك تقصد بيع القطاع العام ومحاربة النقابات وانطلاق ثورة رأس المال الجديد والعولمة التي غيّرت كل شيء، لا في بريطانيا وحسب.

اليوم تقلّب حكومة كير ستارمر العمالية إمكانية تأميم بريتيش ستيل، بعد أن تيتمت هذه الشركة بين أولياء أمور عدة وأصحاب مصالح وشركات حتى آل الأمر بأن تملكها شركة صينية صارت اليوم عاجزة عن دفع رواتب موظفيها. إذا كان ثمة رمز لاحتمال عودة الملكية العامة فإنه سيتجسد ببريتيش ستيل، وإذا ثمة سبب سيجعل تاتشر تتقلب في قبرها، فحين ترى أن كل ما عملت من أجله من خصخصة وتأسيس فكرة التجارة الحرة والملكية الخاصة والرأسمالية الجديدة صار في مهب الريح بعودة الحديث عن التأميم.

لا أكتب عن موضوع التأميم هنا لأنني أريد الحديث عن قضية غربية قد تبدو بعيدة عن اهتمام القارئ. لكن التأميم فكرة مطروحة اليوم في أكثر من بلد عربي، وعلى نطاقات مختلفة، خصوصا وأن أغلب الدول العربية -بما فيها الدول “الرأسمالية” النفطية في الخليج- لا تزال تعمل بقطاعات اقتصادية خليط بين القطاع العام والقطاع الخاص، بل ابتكرت له مفردة القطاع المختلط. من مزارع الزيتون في تونس، إلى مزارع الدواجن التي يملكها أو يديرها الجيش المصري، ثمة إعادة نظر في قضية التأميم. هل تعود الدولة لتستعيد “ملكيتها” من الخواص، أو رجال الأعمال، وتتراجع عن مبادئ الخصخصة، أم تحاول إيجاد صيغة توافقية؟ إلى الآن لا توجد إجابات حاسمة. وللدقة فإن الأمر صعب، ولا يمكن أخذ التجربة البريطانية كمثال. سأضرب مثلا بسيطا: في مرحلة، احتاجت بريتيش ستيل “تأميما” مؤقتا، هو بالحقيقة وسيلة لبقاء الشركة ودفع رواتب عمالها للحيلولة دون تفكيكها. أنفقت الحكومة البريطانية 600 مليون جنيه خلال أقل من عام على شركة عادت وباعتها بـ50 مليون جنيه. طبعا، هذا سعر دفتري بسيط، فما تريده الحكومة البريطانية هو “التخلص” من الشركة لصالح مالك يتولى مسؤولية رواتب عمالها.

لو فعلت شيئا شبيها في بلادنا، سيأتيك من يقول إن هذه الشركة تساوي على الأقل 650 مليون جنيه (600 مليون أنفقت + 50 مليونا قيمة دفترية). وستعاند الدولة بأن هذا هو السعر العادل، كي ينهار القطاع كله بعد حين بحثا عن 650 مليونا بلا قيمة حقيقية ملموسة.

ها نحن نقبل على عصر جديد يحتاج إلى مفردات مختلفة وعقليات تتقبل الفارق. عصر لا يعترف بقيمة دفترية مفترضة.

18