تأثيرات الأدب الروسي في العالم العربي واضحة ولكن دون عبرة

الخطاب السياسي يستدعي الثقافة في الحرب ويهمشها في السلم.
الخميس 2022/02/24
الفن المعاصر وسائل سياسية

يبقى الرهان الأبرز للدول اليوم هو العمل على الاهتمام بالمستويات الثقافية والفنية، بنفس الدرجة مع الاهتمام بالأمن والاقتصاد والتنمية، إذ تمثل الثقافة قوة ناعمة، ووجودها في خضم سياسات الدول ليس بجديد، بل هي قديمة قدم مفهوم الدولة وتنوعه من الملكية إلى الجمهوريات وغيرها. فمنذ القدم واكب المثقفون والفنانون الحركة السياسية وكانوا مؤثرين فيها، إذ يتجاوز تأثير القوة الناعمة الراهن إلى التأثير المستقبلي ويتجاوز الخطابات السياسية الآنية إلى الخطاب الحضاري العالق بالقلوب والعقول والراسخ فيها بعمق أكبر.

العالم العربي لم يكن في منأى عن تأثيرات الأدب الروسي في مرحلته الذهبية أثناء حكم القياصرة وحتى أفولهم، وبدء الحقبة الشيوعية التي لم تستطع القطع مع ألمعية تلك المرحلة، لكنها وظفتها في سياق نقدي يعنى بتطور الأدب الواقعي، ويركّز على الحس الثوري الكامن لدى كتاب وروائيي ما قبل الثورة البلشفية.

لم تغب شمس كتاب روسيا الكبار رغم محاولات التعتيم أو التضييق على بعضهم حتى بعد وفاته، وذلك بسبب عدم مواءمتهم مع المزاج الستاليني، لكن تأثيرهم طال كافة أصقاع العالم فكأنما مقولة “الخروج من معطف غوغول” ظلت بمثابة القدر الذي أصاب جميع كتاب القصة المتفوقين في العالم، وليس في روسيا فحسب.

أما قراء الأدب الروسي في العالم فقد خرجوا جميعهم من عباءة تولستوي ضمن “ريادة روسية” غير مسبوقة، تشهد بها الذاكرة الثقافية لكل من عشق فنون القص والمسرح والرواية على امتداد القارات الخمس.

قوة ناعمة

◙ الفن قوة ناعمة شديدة التأثير

في العالم العربي، بات من المألوف أن تقرأ لكاتب يعرفه محبوه بـ”تشيخوف أو غوركي أو غوغول العرب”، على شاكلة حنا مينة في الرواية، زكريا تامر في القصة، وسعدالله ونوس في المسرح وغير هؤلاء في شتى حقول الإبداع بما في ذلك ما تأسس بعد الثورة الشيوعية كالإنتاج والنقد السينمائي والمسرحي والتشكيلي.

لا بد هنا من الإشارة إلى أن الاحتكاك العربي بالثقافة الروسية ليس حديثا ويقتصر على المرحلة السوفييتية، فواحد من أبرز الأدباء العرب مثل ميخائيل نعيمة، كان قد اطلع على أدب روسيا التي درس فيها اللاهوت قبل الثورة الشيوعية، وفيها كتب تأملاته الوجودية وقصيدته الآسرة “النهر المتجمد” على ضفاف الفولغا.

لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته “دار التقدم” أثناء المرحلة السوفييتية، رغم دورها الدعائي، في طباعة ونشر وتوزيع وترجمة روائع الأدب الروسي إلى مختلف دول العالم في طبعات أنيقة الورق ورمزية الثمن.

وفي هذا السياق، لا بد من قبول مبدأ “السم في الدسم” حين تلمح على نفس رفوف “دار التقدم” كتبا عن “الرفاق التاريخيين” أو من تؤرخ للمعارك الكبرى و”الملاحم الشيوعية”، لكن لا بأس ففي سبيل الاطلاع على أدب دوستوفسكي وشعر بوشكين، وحتى رسول حمزاتوف الذي عاش في الدولة السوفييتية، كان لا بد من التضحية وتحمّل سماجة الكتاب الموظفين في النظام الشمولي.

المفارقة العجيبة أن غالبية كتاب وقراء المغرب العربي المتأثرين بالأدب الروسي كانوا قد قرأوه باللغة الفرنسية عن طريق المنشورات القادمة من باريس أو حتى من موسكو، التي كانت تصنف المنطقة في الخانة الفرنكفونية، وتبعث لها بالترجمات الفرنسية لـ”دار التقدم” عن طريق البعثات الثقافية، وذلك على عكس نظرائهم المشارقة الذين حافظوا على الاحتكاك المباشر بفضل البعثات والأحزاب الموسكوفية مثل العراق وسوريا.

اليوم، وبعد أن استفاق من غفوتهم بعض الذين كانوا يظنون أن الثقافة الروسية قد كبت مع تفكك الاتحاد السوفييتي، يقف العالم على قوة ناعمة لكنها شديدة الفاعلية والتأثير، اسمها الثقافة الروسية التي ظلت تحافظ على كينونة وجودها رغم الأزمات العاصفة.

وفي الأزمات وحدها، تقف الثقافة درع مقاومة لا ينحني للصعوبات الاقتصادية والانكسارات السياسية والعسكرية، لذلك نلحظ أن الزعيم الروسي بوتين، ذي التكوين الاستخباري البعيد عن الفنون، يركّز على الإرث الثقافي لروسيا ويراهن عليه في التصدي للغرب الأوروبي والأميركي بل يجعل منه واجهة إعلامية دعائية تظهر في قاعات استقباله لقادة الغرب داخل تلك القصور القيصرية الباذخة بلوحاتها وتماثيلها.

الثقافي والسياسي

◙ المسألة الثقافية ليست دائما على الهامش السياسي والاقتصادي لبلدان العالم ويقع استدعاؤها في الأزمات على سبيل التعبئة

يبدو أن المواجهة الروسية – الغربية على خلفية تدخل فلاديمير بوتين في أوكرانيا لم تكتف بالمقاربات السياسية والعسكرية لدى المراقبين والمحللين، وذهبت نحو استدعاء التاريخ الأدبي والثقافي لهذه المنطقة التي ضخت للعالم روائع الأدب والفن قبل أنابيب الغاز وشتى أنواع الأسلحة.

وليس غريبا ولا جديدا أن يلقي زعماء المنطقة بالموروث الأدبي في أتون الحروب القومية ويُستخدم في البروبغندا السياسية منذ حكم القياصرة، إلى الرئيس بوتين الذي وقّع أخيرا مرسوما بشأن الاحتفالات بمناسبة حلول الذكرى الـ200 لولادة الكاتب الروسي الشهير ليف تولستوي، وذلك لدوره البارز في تطوير الثقافة والحضارة العالميتين كما ورد في مرسوم بوتين الذي يطرب لتلقيبه بـ”القيصر الجديد”.

وإذا كان الرئيس الأوكراني فولوديمير أولكساندروفيتش زيلينسك يتهم الزعيم الروسي بالسعي لإعادة بناء الاتحاد السوفييتي، في محاولة لتأليب قادة الغرب على هذه الفكرة، إلا أنه قد فات هذا السياسي الشاب أنه كاتب سينمائي، مخرج وممثل قبل كل شيء أي أن عليه أن ينتبه،أكثر من غيره، لقوة الفن والثقافة في المواجهات السياسية.

المتخصصون السياسيون بدورهم انتبهوا إلى علاقة الأزمة بخلفيتها الثقافية فشبهوا دول روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا بـ”الشقيقات الثلاث”. مسرحية تشيخوف الشهيرة التي تدور أحداثها بين ثلاث أخوات وثلاثة مصائر في بيت واحد وأجواء معفرة بتعدد المصائر على خلفية تدخل عسكري أجنبي في الحديقة الخلفية للمنزل.

وبعيدا عن الإسقاطات والتهويمات التي يمارسها المحللون، فإن العلاقة الثقافية بين روسيا وأوكرانيا لم تكن “أخوية” بالكامل كما كانت عليه علاقة الكاتب الأوكراني كوتسيوبنسكي بنظيره الروسي مكسيم غوركي الذي ساعده في نشر أعماله المترجمة إلى الروسية.

◙ عادة ما تكون الثقافة هي القاطرة التي تجر العربات الأخرى خصوصا في منطقة شديدة الحساسية العرقية والقومية

في ما مضى ازداد الاضطهاد القيصري لأوكرانيا واشتدت حملات الهيمنة الروسية. وفي سنة 1876 أصدر القيصر ألكسندر الثاني مرسوما يمنع استعمال اللغة الأوكرانية في المدارس ونشر أي كتاب أو مجلة بها، مما أعاق تطور الأدب الواقعي ونشره، وأدى إلى انتقال مركز الحركة الثقافية الأوكرانية إلى غاليسية التي كانت تحت السيطرة النمساوية.

وحتى لما صارت أوكرانيا جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفييتي بعد 1917، سيطر الحزب الشيوعي سيطرة تامة على جوانب الحياة كلها. وفي سنة 1932 أصدر الحزب قرارا بإحداث اتحاد الكتاب الأوكرانيين، وفي سنة 1934 فرض عليهم الواقعية الاشتراكية بقرار آخر. وقمعت السلطات في عهد ستالين كل محاولة للاستقلال الفكري كما يؤكد التاريخ الحديث.

صفوة القول إن المسألة الثقافية ليست دائما على الهامش السياسي والاقتصادي لبلدان العالم، ويقع استدعاؤها في الأزمات على سبيل التعبئة وشحذ الهمم كما قال ستالين لجنده في الحرب الثانية “دافعوا عن بلاد بوشكين”، بل عادة ما تكون الثقافة هي القاطرة التي تجر العربات الأخرى، خصوصا في منطقة شديدة الحساسية للمكونات العرقية والقومية.

هل يفكر العالم العربي، وهو ينظر اليوم إلى أهمية حضور المكون الثقافي في الخطاب السياسي، وذلك في قراءة تاريخه بعيون أخرى يتعاضد فيها الإرث الأدبي والفني بالإرادة السياسية دون تعصب شوفيني ولكن برغبة في تأكيد حضور وفاعلية مئات الأعوام من الثقافة على المسرح العالمي.

14