بين الأمس واليوم.. كاظم الساهر والجرأة في اختيار كلمات أغنياته

1994 - 2024: ثلاثون عاما ومسرح قرطاج شاهد على نجاح الثنائي كاظم ونزار قباني.
الاثنين 2024/08/05
مطرب المرأة والقصيدة العربية

"جسمك خارطتي ما عادت خارطة العالم تعنيني"، بيت ردده كاظم الساهر مرات متتالية، دفعني إلى البحث عن السر الذي يقف خلف تشجعه على غناء هذه الجملة الجريئة للمرة الأولى بهذا التحدي والحماس، خاصة وأنه أصر طوال تجربته على تعديل كلمات القصائد وصورها الشعرية المثيرة. ولم تنته سهرته في مسرح قرطاج التي عنونها بـ“بين الأمس واليوم” حتى تأكد لي أن جرأته تختلف كثيرا بين الأمس واليوم.

من يقلْ كاظم الساهر يستحضر مباشرة نزار قباني، إذ يشكلان ثنائيا فنيا ناجحا جدا، استطاع بفضل جهود الساهر ملحنا ومطربا وفنانا يختار كلماته بدقة وتأنّ أن يستمر رغم رحيل قباني منذ عام 1998.

بدأ كاظم الغناء منذ عام 1981، لكنه ظل “عراقي” الهوية حتى عام 1994، حين أدى أول أغنية له من قصائد نزار هي “اختاري” التي أصبحت اليوم واحدة من أشهر أغنياته، ومنذ ذلك الحين لم يتخل المطرب العراقي عن قصائد الشاعر السوري، بل ضمنها في أغلب ألبوماته التسعة عشر اللاحقة.

غنى الساهر لشاعر المرأة نزار قباني عشرات الأغنيات حتى لقبه البعض بـ”مطرب المرأة”، ومن أشهر تلك الأغنيات “إلا أنت” و”زيديني عشقا” و”اختاري” و”قولي أحبك” و”مدرسة الحب” و”التحديات”، الأغنيات التي أحدثت نقلة نوعية في مسيرة المطرب وجعلت سيرته ترتبط بالفن الطربي “الرصين” والأغنية العربية والصورة الشعرية المبهرة.

شعر نزار هو إحدى أهم وأكثر التجارب الشعرية العربية الحديثة انتشارا في الوطن العربي، وأكثرها إثارة للجدل النقدي والإعلامي، ففي حين لقبه بعض الدارسين والنقاد بـ”شاعر المرأة” رآه آخرون “شاعر الفضيحة” و”شاعر النهود” و”شاعر الحب”، بل ذهب البعض إلى حد وصفه بأنه مفسد المرأة بينما رأى البعض الآخر أنه أعطى المرأة معنى كونها أنثى. كلها آراء زادت اعتزاز الشاعر بكلماته وإعلانه صراحة ولاءه المطلق للنهود، واعتماد كلماته منطلقا “لتحرر جسد المرأة وإخراج عواطفها من السرية إلى العلنية”.

كان نزار يكتب رافعا شعار “الكاتبُ الكبير هو الذي تَنْخُرُ في عظامِهِ جُرْثُومَةُ الشَجَاعَة”، لكن كاظم لم يمتلك هذه الشجاعة إلا متأخرا. فعلى مدى سنوات طويلة ظل نزار قباني يصف الجسد الأنثوي ويطنب في شرح تفاصيله ورسم صور شعرية غزلية مثيرة، لكن كاظم لا ينقلها كما هي، بل كان طوال مسيرته وفيا لمجتمعه المحافظ، يجري تعديلاته الخاصة على الكلمات ويختار أبياتا دون أخرى، حاذفا ما قد يثير حفيظة المستمع، ومضيفا لمسات قد تغير الصورة الشعرية كليا.

بعد مسيرة أربعين عاما رفع كاظم شعار نزار قباني "الكاتبُ الكبير هو الذي تَنْخُرُ في عظامِهِ جُرْثُومَةُ الشَجَاعَة"

قبل 27 عاما وتحديدا في عام 1997 غنى كاظم الساهر واحدة من أجمل قصائد نزار هي “زيديني عشقا” لكنه لم يكن يملك حينها الشجاعة والجرأة الكافيتين ليحافظ على بعض كلماتها وتحديدا “جسمك خارطتي” التي اختار أن يحولها إلى “حبك خارطتي”، وبين الحب والجسم تتغير الخارطة كليا وتتغير معها الصورة الشعرية التي يستقبلها عقل المستمع.

بقي كاظم يؤدي الأغنية محافظا على تعديلاته الجزئية على البيت الذي وردت فيه العبارة المذكورة حتى ظهر مرة في لقاء تلفزيوني ليصرح بجرأة غير معهودة منه بأنه ندم على تعديل بعض الكلمات في القصائد ومن أهمها كلمة “جسمك” في أغنية “زيديني عشقا”، معبرا عن استغرابه من خجله من عبارة جسمك، ومشيرا إلى أنه لا ضير في اعتبار المرأة وجسدها خارطة للرجل، فهي الأم والحبيبة التي دونها تختل موازين الرجل.

بعد ذلك صار كاظم يغني القصيدة بجرأة ويكرر على مسامعنا “جسمك خارطتي”، كما فعل في آخر حفلاته في الدورة الـ58 من مهرجان قرطاج الدولي بتونس والذي تعود علاقة الفنان به إلى سنة 1994 تاريخ أول صعود له على هذا المسرح العريق، الذي لو نطق لشهد بالتطورات الحاصلة في مسيرة المطرب وكيف استطاع تدريجيا أن يؤكد مكانته المرموقة ويصبح واحدا من أهم المطربين العرب.

واليوم حين صار كاظم “قيصر الأغنية العربية” وبلغت تجربته قمتها، أصبح يبدي جرأة غير معهودة في اختيار الكلمات. يكفي أن نستمع بتأنّ وتدقيق لآخر ألبوماته التي يكمل فيها مسيرته مع نزار قباني وشعراء آخرين.

في ألبوم كاظم “بعد الحب” لم تخل بعض القصائد من الجرأة في الكلمة وفي تنويع أسماء الشعراء

حالة الجرأة الواضحة هذه بدأت مع الساهر منذ عام 2016 مع صدور ألبوم “كتاب الحب” الذي أدى فيه أغنية “لجسمك عطر”، وهو العنوان الجديد الذي أطلقه كاظم على قصيدة “حوار مع سفرجلتين” لنزار قباني، و”السفرجلتان” هنا يشير بهما نزار إلى نهدي المرأة.

من كلمات هذه القصيدة يقول كاظم ونزار “لجسمك عطر خطير النوايا يقيم بكل الزوايا/ لجسمك عطر به تتجمع كل الأنوثة وكل النساء/ يدوخني يذوبني ويزرعني كوكبا في السماء/ سلام على جسد كالخرافة يفتح كالورد أجفانه/ وأشعر أن السرير يسافر فوق الغمام/ سلام على الخصر يخطر بالبال مثل الملاك/ سلام على قمرين يدوران حولي”.

في البداية بدا التحدي واضحا على كاظم فلم يقدم الأغنية كاملة بل كان يؤدي منها مقاطع مصحوبة بعزف بيانو فردي (صولو) للمايسترو اللبناني ميشال فاضل لكنه استجمع “قواه” في إحدى حفلاته ليغني القصيدة كاملة، وسط هتاف وتصفيق جمهوره.

وجاء العنوان الذي اختاره كاظم ليكون أكثر جرأة ووضوحا، حتى أنه اتهم بأنه تحول إلى فنان جريء لا يخاف استخدام مفردات وصور شعرية إباحية نوعا ما، لكنه برر اختياره بأنها “قصيدة رومانسية وراقية”.

هذا العام أصدر كاظم ألبوما من 13 أغنية وأطلق عليه عنوان “بعد الحب”، لم تخل بعض قصائده من الجرأة في الكلمة، وكذلك الجرأة في تنويع أسماء الشعراء الذين تعاون معهم، فرغم أن بعض الأغنيات جاءت بعد جمع أبيات من قصائد مختلفة لنزار، وأخرى لرفيق دربه الثاني الشاعر كريم العراقي، غنى المطرب أيضا لشعراء آخرين من السعودية والسودان والعراق واليمن، هم دارين شبير وياسر البيلي وداوود الغنام وجمانة جميل، منحهم فرصة إثراء مدونته الموسيقية بأشعار عاطفية وصور شعرية لحالات حب مختلفة بين الندم والوله والتحدي والوحدة والشوق، لكنه كما دأب دوما، يختار قصائد لا تبتعد في أسلوبها عن أسلوب “شاعر المرأة”، وتكمل صورته مطربا للمرأة.

Thumbnail

في هذا الألبوم قدم كاظم أغنية من كلماته وألحانه، هي الأخرى تواصل ترسيخ صورته مطربا جريئا، لم يكن في نسخته القديمة شجاعا كفاية ليغني كل أبياتها لو قدمها آنذاك. ورأى البعض من جمهوره أن هذه القصيدة قد تكون تعبيرا عن حالته.

في هذه القصيدة التي أطلق عليها عنوان “يا قلب”، يصف الساهر تقلبات عاشق وتنقُّلاته بين قصص الهوى بحيث لم يعد يستطيع العيش دون حبّ. ويقول في إحدى أبياتها “يا قلب إني مرهقُ… من منّا لا يسكره.. ثغرٌ لهيبٌ يُحرقُ.. من منّا لا يسكره.. هذا الجمال”. وحده جمهور كاظم ومتتبعو مسيرته بإمكانهم إدراك أن جملة مثل “من منا لا يسكره ثغر لهيب يحرق” لم يكن ليغنيها كاظم “القديم”.

يبدو أن الزمن تغير، فالخجل خفت بينما زادت الجرأة والشجاعة. لم يعد في العمر الكثير كي يهتم كاظم برأي النقاد أو المهاجمين، ولم يعد ذاك المطرب الصاعد الذي يراعي موقف الجمهور منه، ويتعامل مع اللغة وكأنه يسير فوق حقل من الألغام، يختار مفرداتها بدقة ليرسم لنفسه هوية موسيقية تضعه ضمن نجوم الصف الأول.

اليوم، بعد مسيرة أربعين عاما رفع كاظم ضمنيا شعار نزار “الكاتبُ الكبير هو الذي تَنْخُرُ في عظامِهِ جُرْثُومَةُ الشَجَاعَة”، ليحوله إن صح التعبير إلى “المطرب الكبير هو الذي تنخر في عظامه جرثومة الشجاعة”، وها هو يمارس شجاعته في نقل المشاعر والأفكار كما هي. وكما كان شجاعا في الغناء بالفصحى والالتزام بهوية موسيقية رصينة في زمن الأغنية السريعة والكلمة المبتذلة، هو اليوم شجاع في البوح بصور شعرية جريئة.

في بداية ظهوره في التسعينات تعرض كاظم الساهر لحملة شرسة، وصنفه بعض النقاد والصحافيين في خانة “الظاهرة” التي سرعان ما سيأفل نجمها، لكنه أثبت لهم بعد عقود أنه قادر على الصمود وكسر توقعاتهم وتقديم فن راق رغم التدني الذي تعانيه الموسيقى العربية.

15