بيروت تلبس ثوب طهران في معرض كتابها

سيختتم بعد يومين معرض بيروت الدولي للكتاب، مخلفا وراءه مشاهد مؤلمة لا تنسى، تؤكد على واقع المدينة الصعب في ظل هيمنة ما هو سياسي خارجي على الثقافة وبقية ملامح الحياة الحضارية المتوازنة. بيروت التي تعتبر رمز الحداثة العربية تعاني اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل هيمنة دول أجنبية حتى على وجهها الثقافي المشرق.
تتواصل فعاليات الدورة الثالثة والستين من معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، الذي ينظمه النادي الثقافي العربي في الفترة الممتدة من الثالث من مارس إلى الثالث عشر من نفس الشهر.
لكن المعرض هذا العام جاء بثوب مختلف، ثوب ممزق بالعراك والجدل والخصومات، على ضوء ما يشهده من هيمنة الجانب السياسي على الثقافي، وانتشار الكتب الأيديولوجية والأجنحة الإيرانية على حساب غيرها، علاوة على الاحتفاء بالسياسيين بدل المثقفين.
احتلال المعرض

واقع بيروت المتأزم ليس أزمتها وحدها إنه واقع الحداثة العربية التي قُبرت بتزكية سياسية وبتعمّد مسبق
بيروت منتصف القرن العشرين مدينة حلم. في بيروت طبعت أهم الكتب العربية، فيها تبلورت حركة الصحافة الثقافية، فيها انتشرت التراجم لأهم الأدباء والمفكرين من مختلف الأصقاع، وفيها تكاثرت الملتقيات واللقاءات والجماعات الأدبية والثقافية والفنية، فيها ظهرت فيروز والأخوان الرحباني ليغيروا واقع الموسيقى العربية كلمة ولحنا، ويذهبوا بها بعيدا إلى التفاصيل الهامشية، فيها اجتمع الأدباء والفنانون من مختلف أنحاء الوطن العربي، كانت الملجأ والحضن والمساحة المفتوحة لكل نفس إبداعي حداثي.
ما الذي حدث لنشاهد هذا النكوص الخطير؟ ما الذي قاد جوهرة الحداثة العربية إلى هذا المنحدر المرعب من الخواء؟
تكفي جولة صغيرة في معرض بيروت الدولي للكتاب، كما أشار الكثير من زواره، لتطالعك المكتبات الإيرانية، مكتبات لا تسعى إلى نشر شيء من الثقافة الفارسية بل هي حوانيت كتب صفراء تنتشر في مساحة المعرض، تتزين أغلبها بصور الخميني وخامنائي، بينما تتوسط المعرض صورة العسكري الإيراني قاسم سليماني الذي قتل في العراق، والذي ارتبطت به تهم كثيرة لدوره الدموي في العراق وسوريا، ضد شعبي البلدين، وقد تصادفك صور هنا وهناك لحسن نصرالله الموالي لإيران، فماذا يفعل عسكريون وسياسيون إسلاميون تحديدا في معرض دولي للكتاب؟
بالنسبة إلى صفة “دولي” أو صفة “عربي”، اشتكى الكثيرون بأن المعرض لا يحمل من الدولي إلا الاسم الفضفاض، وحتى دور النشر اللبنانية لا تقارن بنظيراتها الإيرانية، التي تقدم غالبيتها كتبا في الدين والفقه وغيره من مشتقات تلك المؤلفات التي لا يُعرف لها صاحب ولا أصل.
علقت زائرة في نقل مباشر عبر الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، قائلة “أحس أنني في طهران.. هذا معرض طهران للكتاب لا بيروت”، مضيفة في سخرية أنها أحست بالسعادة لوجود دور نشر لبنانية قليلة وسط “طوفان” من الدور الإيرانية والكتب والصور التي تعلقها.
طيلة السنوات الأخيرة ظل المعرض يتقهقر ويفقد أهميته العربية والدولية نظرا إلى توسع الوجود الإيراني السياسي فيه. لا تحضر إيران كدولة تقدم ثقافتها كبقية الدول في معارض الكتب، بل تحضر بكل ثقلها السياسي، وما استعمال صور السياسيين الإيرانيين أو أتباعهم مثل حسن نصرالله في لبنان، واستحضار صور عسكريين، إلا دليل على أن لا علاقة للأمر بالثقافة، إنه أمر آخر. إنه احتلال صريح، والأخطر من احتلال الأرض أن تحتل العقول.
امتعاض اللبنانيين من المشهد المؤسف لتحول معرضهم إلى محفل سياسي إيراني نشبت على إثره خصومات وتشابك بالأيدي، إذ حاول عدد من الناشطين اقتحام جناح “دار المودة” ورددوا شعارات مناهضة لإيران على خلفية عرض صورة العسكري الإيراني قاسم سليماني، وما لبث أن تطور الأمر إلى اشتباك بالأيدي، في مشهد يضاف إلى مشاهد الخراب الرمزي الذي يعاني منه لبنان ومن خلفه الوطن العربي ككل.
من ناحية أخرى ما عاد للمعرض من برنامج ثقافي يحضر فيه كبار الكتاب والأدباء والمثقفين العرب، بل تراجع إلى مجرد عرض كتب وجلسات محلية تغلب عليها المحسوبية السياسية.
جوهرة الحداثة
من المفهوم أن معارض الكتب تمثل القوة الناعمة لكل دولة، وليست بمعزل عن الفعل السياسي، لكنها أبعد من الوجه الدعائي والتحريضي والسطحي للسياسة، إنها الوجه الثقافي والحضاري للدول، ناهيك عن دورها الاقتصادي في تحريك صناعة الكتاب والنشر، كما أنها فرصة للمّ شمل المثقفين والمبدعين والأدباء على أهم رافد ثقافي وهو الكتاب وعلى كل ما يتعلق به من ندوات وجلسات ونقاشات وغيرها من برامج تشمل حتى الطفل ومظاهر ثقافية أخرى كالفنون والطهي واللباس. كما أنها ترسخ التنوع الثقافي في أجلّ صوره، فتتجاور الكتب الدينية مع الأدبية مع كتب الأطفال ويتحقق بذلك التنوع الذي يمثل رهان ثقافة التسامح والتعايش وتحقيق اللحمة الاجتماعية.
لكن أن يتحول معرض للكتاب إلى مرتع للدعاية السياسية والعسكرية، وإلى توجه أحادي ليقدم كما هو الحال في معرض بيروت كتب إيران الدينية وذات التوجهات الأيديولوجية الإسلامية، وأن يصبح مجالا للتباهي بعرض صور في حجم كبير لسياسيين إيرانيين وموالين لهم من حزب الله، فهذا لن يخدم لا حاضر ولا غد المعرض كقوة ناعمة، بل يحوله إلى ساحة أنصار بعقول عمياء.
تحول مخيف تشهده بيروت، جوهرة الحداثة العربية، واستحواذ دولة أخرى على الكتاب الذي كان من أهم منتجات بيروت، حتى أن أبرز الكتاب العرب كانوا يتسابقون للنشر في بيروت ويتباهون بذلك، وغزو معرض كتابها بكتب صفراء ورايات غريبة ليس إلا إشارة إلى ما يمكن اعتباره ضربا لرمز حداثي.
إن واقع بيروت ليس أزمتها وحدها، إنه واقع الحداثة العربية التي قُبرت بتزكية سياسية، إنه فشل المشاريع الوطنية، وتراجع المثقفين عن آداء أدوارهم، وانتشار التجييش العسكري والبوليسي واستغلال الدين في السياسة من قبل أخطر مشروع مناهض للحداثة ألا وهو الإسلام السياسي.
إن ما تعيشه بيروت هو ما تعيشه مختلف أنحاء العالم العربي من تخريب متعمّد، وما عاشته قبلها بغداد من دمار وما عاشته القاهرة من محاولة تركيع في زمن الإخوان. يجب أن تكون أزمة بيروت أزمة كل مثقف عربي وقضيته الخاصة، أليست هي من منح هؤلاء النور في زمن مضطرب، فلماذا تترك وحيدة اليوم؟
