بيت لحم الحزينة

الخطورة لا تكمن فقط في ترحيل الفلسطيني أو قتله أو العودة به إلى العصور القديمة بل تكمن في عدم توقف الدعم الغربي العسكري والمالي والبشري لإسرائيل بعد تجاوزها كل الحدود الأخلاقية والإنسانية.
الأربعاء 2023/12/27
غابت الأضواء عن شعائر الميلاد وخيم الحزن

في هذه الأيام من كل عام تحتفل فلسطين بأعياد الميلاد، ولكن الحزن المتدفق من غزة، والدمار الذي يحيط بالأبصار في ذاك القطاع البائس، دفع مجلس الأساقفة للإعلان عن قرارهم الإنساني والوطني بعدم الاحتفال بأعياد الميلاد في فلسطين، ولهذا لم تضأ شجرة عيد الميلاد في ساحة كنيسة المهد كما هو معتاد وتمت الاستعاضة عن ذلك بمجسم يجسد الدّمار الذي لحق بغزّة.

“بيت لحم حزينة” حسب تعبير الأب رامي عساكرية راعي طائفة اللاتين، الذي قال حسب وسائل إعلام فلسطينية “إن الأولوية هذا العام هو للصلاة من أجل غزّة وليس الاحتفال بأعياد الميلاد”.

يقدّر الفلسطينيون بكل أطيافهم هذا الموقف عاليا من الإخوة في الوطن، وهم من عانوا الأمرّين من هذا الاحتلال العنصري ورجال حكومته المتطرفين، مثل بن غفير وأشباهه، والذي اعتبر منذ عدة أشهر خلت، وتحديدا في اليوم الرابع من احتفالات عيد العرش، أن “البصق على المسيحيين هو تقليد يهودي قديم تجب ممارسته”. وفي الأسبوع الماضي، قتلت قوات الاحتلال امرأة مسيحية وابنتها لأنهما حاولتا الخروج بحثا عن الماء والغذاء، من كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية في غزة والتي تحاصرها قوات الاحتلال، وهي جريمة تحدث عنها الأب فرانسيس، مع العلم أن هذه الكنيسة التي تحولت إلى ملجأ في هذه الحرب، تعرضت للقصف عدة مرات. وهنا نستذكر أيضا مجزرة المستشفى المعمداني التاريخي والتي راح ضحيتها أكثر من 500 شخص.

رامي عساكرية: الأولوية هذا العام هو للصلاة من أجل غزّة وليس الاحتفال بأعياد الميلاد
رامي عساكرية: الأولوية هذا العام هو للصلاة من أجل غزّة وليس الاحتفال بأعياد الميلاد

ليست بيت لحم وحدها حزينة، بل القدس والخليل أيضا، وكل دور العبادة والأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية، فالمسجد الأقصى لم تؤدّ فيه الصلوات بانتظام وتم منع رفع الآذان فيه ويسمح الاحتلال، أحيانا، فقط لسكان البلدة القديمة ومن هم فوق الخمسين عاما الدخول إليه، وبات جواب الشرطة الإسرائيلية الهازئ بالفلسطينيين معروفا للجميع “الأقصى مسكر مشان الحرب، بس تخلص الحرب منفتحه، منخاف تنزل عليكم صواريخ وتنقتلوا”. وللمفارقة تسمح قوات الشرطة الإسرائيلية للمستوطنين باقتحامه والدخول إليه وتعمل على حمايتهم أيضا بكل ما أوتيت من قوة وبطش.

وقد بدأت السلطات الإسرائيلية وبتعاون مع السلطات الدينية، بتشريع وحماية عمليات اقتحام المستوطنين للأقصى منذ عام 2003، وتزايدت خلال ذلك جماعات “الهيكل” التي تنتمي إلى تيار الصهيونية الدينية، التي تتبنى فكرة وجوب بناء “جبل الهيكل” (أي المسجد الأقصى) للتعجيل بمجيء “المسيح المنتظر”.

على ضوء ما سبق، فالاعتداءات الإسرائيلية تستهدف المسيحيين بصفتهم فلسطينيين بغض النظر عن ديانتهم، وتستهدف أماكن عبادتهم كما تستهدف أماكن عبادة المسلمين وتعمل على تقسيمها زمانيا ومكانيا، كما حصل في الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، فالاستيطان لم يعد متوقفا على الأراضي الفلسطينية الزراعية أو السكنية أو حتى على أنقاض القرى المدمرة التي يزعم الاحتلال أنها خالية من سكانها، بل تجاوز لاستيطان الأماكن المقدسة ودور العبادات وعدم احترام أيّ من أبناء الديانات السماوية الأخرى. فالغاية الواضحة هي ليست فقط استيطان المقدسات الإسلامية والمسيحية وتخريبها بل وإحلال الديانة اليهودية عوضا عنهما.

فالمسلم والمسيحي مهددان بالترحيل أو القتل بشكل علني من قبل حكومة الليكود المتطرفة، فجريرتهما أنهما ليسا من أبناء الديانة اليهودية، والجرائم تستهدف الاثنين معا، لأنهما يتطلعان لدولة فلسطينية مستقلة يعيشان فيها رفقة باقي أبناء الديانات الأخرى بسلام وأمان. لا تكمن الخطورة فقط في هذا المشروع الذي يهدف إلى ترحيل الفلسطيني أو قتله أو العودة به إلى العصور القديمة، بل تكمن في عدم توقف هذا الدعم الغربي العسكري والمالي والبشري لإسرائيل بعد تجاوزها كل الحدود الأخلاقية والإنسانية.

في ظل الإمعان في هذه المقتلة المستمرة في قطاع غزة، وعدم تحقيق إسرائيل أيّا من أهدافها المعلنة عسكريا ضد الفلسطينيين هناك، ومأزق الحرب البرية الإسرائيلية التي كلفتها خسائر فادحة في الجيش والأسرى المحتجزين، ربما تصل القيادة السياسية في تل أبيب إلى قناعة مفادها أن هذه الحرب ستنتهي إلى صيغة لا غالب ولا مغلوب، ولعل الوصول إلى هذه القناعة والاعتراف بها يحتاج تغييرا جذريا لحكومة اليمين المتطرفة، وقد يكون رئيسها أوّل من يتوجب تغييره، لاعتباره أن هذه الحرب هي حربه الشخصية والتي إن انتهت دون تحقيق أيّ من أهدافه اللاواقعية فستنتهي به في زنازين الفساد والرشاوى.

9