"بيت القصيد" الدمشقي تجربة تسترجعها أوروبا والعالم العربي

لقمان ديركي يعيد تأسيس البيت في هامبورغ.
الخميس 2022/10/13
الشعر جسر يحتشد عليه الناس (لوحة للفنان حمزة بنوة)

مثلت اجتماعات الشباب الكتاب والشعراء سابقا ما يشبه المنتديات أو الملتقيات أو النوادي، والتي وإن كانت لا تتلقى أي نوع من الدعم، فإنها نجحت في خلق حراك أدبي وثقافي هام، حراك قادته روح الشباب والولع الوجودي بالأدب، فهل يمكن استنساخ تلك التجارب اليوم؟

"بيت القصيد" ملتقى لقراءة الشعر في دمشق كان قد أسسه الشاعر السوري الكردي لقمان ديركي، على طريقته ووفق مزاجه الرائق المتقلب أي أنه خارج كل إطار مؤسساتي أو مفهوم مدرسي أو متابعة نقدية صارمة.

توقف نشاط “بيت القصيد” مع بداية الأحداث في سوريا وخروج غالبية رواده ومتابعيه من البلاد التي كانت تتنفس شعرا يواسي أوجاعها.

استنساخ البيت

تلك التجربة ظلت مطبوعة في ذهن كل من حضر واستمع وشارك في هذا الفضاء الشعري الحر من سوريين وعرب وأجانب فعمد بعضهم إلى استنساخها أو النسج على منوالها في مدن كثيرة من العالم.

بدا الأمر اليوم، وفي محاولات استعادة تلك الفعالية الثقافية الفنية الآسرة، مثل حنين الأندلسيين إلى غرناطة بعد سقوطها، إذ حاولوا استرجاعها عن طريق الشعر ومجالس الطرب والغناء في المنازل التي حلوا بها بعد هجرتهم.

محاولات الاستنساخ هذه لم تعوض النسخة الأصلية من “بيت القصيد” كفردوس مفقود، لكنها كشفت عن فرادة تلك التجربة لكونها تحتفي بالشعر مع بعض الموسيقى والغناء دون ضوابط وبرامج صارمة بل بالكثير من الارتجال والمرح في حانة فندق “برج الفردوس” الذي كانت تديره سيدة مثقفة وهي رولا الركبي، وحتى أثناء انتقال نشاطه إلى مرسم الفنان التشكيلي مصطفى علي في مدينة دمشق القديمة، وفي حارة اليهود، على وجه الدقة والتحديد.

محاولات الاستنساخ لم تعوض النسخة الأصلية من "بيت القصيد" كفردوس مفقود لكنها كشفت عن فرادة تلك التجربة

لقمان ديركي، الذي استضافه مهرجان أمارجي، في يومه الأول، أعاد إحياء “بيت القصيد” في هامبورغ، هو شاعر وكاتب، وممثل وعازف ومغن أحيانا، طبع “بيت القصيد” بروحه المتوثبة والتواقة إلى الانعتاق من كل قيد، فجاء هذا الفضاء يشبهه، هو والذين معه ويساعدونه في تنظيم ذلك الملتقى الأسبوعي البهيج، ومنهم الكاتب الدرامي والشاعر عدنان العودة، الذي أحيا أجواء “بيت القصيد” في دبي وروتردام، واستضاف، على سبيل الحنين، بعض الذين سبق لهم المثول في فضاء دمشق.

أما ماريكا فان كايونبيرخ، فهي إحدى منظمات ملتقى “بيت القصيد” في آنتويربين.

وعن فكرة تأسيس هذا الملتقى، تقول إنها أتت من ملتقى “بيت القصيد” الموجود في أحد أحياء دمشق القديمة. حيث حضرته كايونبيرخ عدة مرات، أثناء دراستها للغة العربية في دمشق. وأكدت أنها التقت بالشاعر الكردي السوري لقمان ديركي، المؤسس، وأعجبت كثيراً بذلك الملتقى، وأرادت تأسيس نسخة منه في مدينتها آنتويربين، مع صديقتيها كاتلين سخيوريمانيس وباربارا فانديرهالين، بهدف “التقريب بين الثقافات، وتسليط الأضواء على التجارب الإبداعية”.

وعملت على جمع الناس من ذوي الخلفيات الثقافية المتنوعة، وقراءة الشعر والاستماع إلى الموسيقى وباقي الفنون، لكونها طابعا عالميا.

وقالت الشابة البلجيكية إنه يمكن للشعر تشكيل جسر يحتشد عليه الناس، مضيفة “أردنا خلق التبادل الثقافي بين الشعوب العربية والبلجيكية”. ومؤكدةً أنه يمكن اعتبار الأمسية الشعرية – الموسيقية التي قدمها ملتقاهم، بمثابة الإعلان عن انطلاقة ملتقى “بيت القصيد” في آنتويربين.

تجربة ثقافية عميقة

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المبادرة ليست النسخة الأولى لـ”بيت القصيد” الدمشقي في بلجيكا، بل سبقتها في العام الماضي، أمسية لبيت القصيد في بروكسل، بمبادرة من صحافي بلجيكي معروف، يدعى يورن دي كوك. وهو مراسل لواحدة من أكبر الصحف البلجيكية؛ “دي ستاندارد”.

عاش يورن دي كوك،  في دمشق، وتردد على “بيت القصيد” الدمشقي، لكنه اضطر إلى الانتقال إلى بيروت.

وبالعودة إلى كايونبيرخ، قالت هذه الشابة “صحيح أن ملتقانا، يحمل نفس الاسم لملتقى دمشق، إلا انه يختلف عنه، لجهة أن أمسياتنا تعقد كل شهر، بينما أمسيات بيت القصيد في دمشق، كانت كل أسبوع”.

الفارق بين “بيت القصيد” الدمشقي وبين هذه التجارب التي أحبت النسج على منواله، هو أن مؤسسيه في سوريا لم يتلقوا أي دعم رسمي أو خاص بل كثيرا ما كان يقع التضييق عليه، رغم ابتعاده عن أي نشاط سياسي أو ما شابه ذلك بل اكتفى بالاحتفاء بالشعر والفنون المجاورة له، بعيدا عن الوجه المحنط والمتكلس لأنشطة اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة السورية.

الفارق بين "بيت القصيد" الدمشقي وبين تجارب استنساخه هو أنه لم يتلق أي دعم رسمي أو خاص

الفعالية الشعرية الثقافية التي قادها ديركي ورفاقه، عرفت بالكثير من الشعراء الشبان والمغمورين والمهمشين وسط أجواء شبابية بهيجة تخللتها التعليقات الطريفة والنكات والارتجالات لجمهور من الجنسين، ودون مراسم وبروتوكولات.

كانت ليالي بيت القصيد الدمشقي تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، وبات الجميع على موعد مع هذا الملتقى الأسبوعي في أجواء احتفالية فاقت كل تلك التي تنظمها الجهات الرسمية.

الذي جعل الملتقى يأخذ هذه الشهرة، وتحاول تقليده نماذج عربية كثيرة ولم تفلح، هو روحه المتمردة على كل القيود، سواء كان في شكل ومضمون القصائد المقروءة، أو لطبيعته الشبابية القريبة من روح العصر، حيث أنه ابتعد عن ذلك الطابع الرسمي المتجهم، وتلك الصورة النمطية للشاعر الذي يراه الناس في الملتقيات وعلى شاشات التلفزيون.

نجح الشاعر الكردي السوري في نقل هذه العدوى الحميدة إلى مدن أوروبية كثيرة يعيش فيها مثقفون عرب كما نجح في تحرير الشعر من منبريته ورتابته وابتعاده عن نبض الناس، وهو أمر ينبغي أن ينظر إليه بجدية وتقدير داخل العالم العربي وخارجه.

وفي هذا الصدد، يقول الشاعر العراقي حميد العقابي، وهو مقيم في الدنمارك، إن أجمل لحظة إبداع هي عندما ينزل الشاعر ليعيش شعبية الناس، معتبرا أن هذه اللحظة “هي الشعر نفسه”، وذلك أثناء حضوره أمسية “بيت القصيدة” التي أقامها ديركي في حانة “البابيون” بالعاصمة البلجيكية بروكسل.

ويأمل مستضيفو تجربة “بيت القصيد” في أن يتم تبنيها من قبل الشعراء المقيمين في بروكسل، ومنهم الشاعر المغربي طه عدنان، وغيره من المثقفين العرب في بلجيكا.

تلك كانت مجرد إضاءة بسيطة على تجربة ثقافية عميقة وبسيطة في منطلقاتها وغاياتها، ذلك أنها تختصر ما ينبغي أن يكون عليه الفعل الثقافي.

13