"بيت الجريزة".. سيرة كاتب عماني مسحور بأزقة مسقط القديمة

أجيال وراء أجيال.. القرية العمانية مازالت تنجب الأدباء والمبدعين.
الثلاثاء 2021/05/25
سيرة تنشغل بسرد جماليات المكان (لوحة للفنان أنور سونيا)

للمكان تأثيره الخاص في حياة المبدعين حتى وإن لم يحضر بشكل مباشر في ما يبدعونه، فإنه يبقى الصانع الأول لطفولاتهم ولتفاصيل حيواتهم التي ينهلون منها. وللمكان في الأدب على غرار الفنون الأخرى علاقة وثيقة لكنها تراوح بين الظهور والاختفاء بين السطور. ووفاء للمكان وشخوصه قدم الكاتب العُماني هاشم الشامسي سيرته "بيت الجريزة".

مسقط – قدم المشروع الثقافي السنوي للجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء لطباعة الكُتب والإصدارات الأدبية والفكرية كتابا جديدا للأديب العماني هاشم الشامسي بعنوان “بيت الجريزة”، والذي يمثل سيرة ذاتية للكاتب وسردا لأهم أطوار تجربته.

في هذا الكتاب الجديد تتجسّد إضافة الشامسي الأدبية؛ فهو ينقل البدايات الأولى له في مدينة مسقط القديمة، حيث ماهية بيت الجريزة وخصوصيته، ويروي تلك التفاصيل التي يبحث عنها القارئ حول ذات الكاتب وروح المكان وسيرته.

أبواب وشخصيات حقيقية

يعتبر “بيت الجريزة” أحد المعالم العمرانية والأثرية المهمّة في مدينة مسقط كما يذكر الشامسي، إلى جانب قلعتي الجلالي والميراني وقصر العلم العامر، وغيرها من المعالم التاريخية الأخرى التي تميّزت بها المدينة، مشيرا إلى “بيت الجريزة” الذي جاء عنوانا لسيرته، له بُعده الرمزي والجمالي لمدينة عريقة، وفي ذاكرة طفولته أيضا.

والمتتبع لما يضمّه هذا الإصدار سيلحظ إهداء الشامسي في بدايات الصفحات الأولى إلى إخوته (إبراهيم، يوسف، بدر)، وهنا يبرر الكاتب قصة الإهداء، وبروز وقع الذاتية قائلا “في كتبي السابقة أضع إهدائي حسب ما يمثّله ذلك الإهداء من قيمة وجدانية وعاطفية وروحية في نفسي أو شخصيتي، والكلمات تؤطر ذلك الإهداء بما تتركه في نفسي من بُعد ووقع جمالي ومدى اقترابه من كينونتي، أو أنّه يشكّل جزءًا من ثقافتي وارتباطاتي الاجتماعية أو المكان المحيط بي وعلاقاتي الشخصية بها. وقد جاء إهدائي هذه المرة إلى إخوتي وبما يتوافق مع سيرتي الذاتية”.

الكاتب هاشم الشامسي مسكون بجماليات المكان ويكتب من منطلق وفائه لكل التجليات الملتصقة بالأرض والمدن والقرى

وقسّم الشامسي كتابه إلى عدد من الأبواب التي تسهل للقارئ التواصل مع حيثياتها، بدءًا من المدينة الفاضلة (مسقط القديمة) كما يسميها الكاتب، مرورا بما يربطه بالكثير من الأسماء، وغيرها من الأبواب إلى أن يصل القارئ في باب لقاء مع الموت، هنا يقرّبنا الكاتب من هذه التقسيمات، ومجيئها بتلك الصورة، مع بيان الخاصية الذاتية التي تربطه بها، فهو يشير إلى أن تقسيم الإصدار جاء إلى وقفات تستند إلى مراحل حياته حسب تعبيره، والتي عاشها أيضا منذ طفولته وحتى الآن، وحسب علاقته بالمكان وارتباطه بالزمان الذي حدثت فيه.

 وهنا يوضح الشامسي “كانت وقفتي الأولى أخذتني بذاكرة طفولتي في مدينة مسقط القديمة، وكانت المدرسة السعيدية هي الحلقة الرئيسة في هذه الوقفة، والتي تدور حولها مسارات حياتي في هذه المدينة العريقة والضاربة في القِدم، وما حملته حياتي من أحداث ومواقف حاولت سردها بقدر ما أمكن.

وجاءت الوقفة الثانية حول الجزء الآخر من طفولتي والذي كانت أحداثه تدور في مدينة السيب القديمة، حيث البراءة والعفوية والمراهقة النزقة والحياة الأكثر انطلاقًا وحرية وما تحويه هذه المدينة من ذكريات عَبق بها التاريخ، وتأتي الوقفة الثالثة حول الحياة في مدينة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية في الثمانينات من القرن الماضي، وما تمثله هذه المدينة من زخم علمي وثقافي وفني، حيث تلقيت فيها دراستي الجامعية وعانقت روحي ذلك الزخم الفكري والفني، فكانت هي المحطة التي انطلقت منها إلى آفاق رحبة من المعرفة والسفر والترحال والرؤى المتجددة”.

ويتابع المؤلف “أما الوقفة الأخيرة فجاءت حول ‘لقائي مع الموت’ وهو الموقف الذي حدث لي في عام 2013، وكاد هذا الموقف أن يودي بحياتي لولا أن القدر كان بجانبي، وتدور أحداثه بين البيت في الحيل الجنوبية من ولاية السيب ومستشفى جامعة السلطان قابوس”.

لا بد لأي سيرة أدبية أن تحمل بين طياتها الكثير من الحقائق بما في ذلك حقائق الشخوص والتي جاءت واضحة هنا، تلك الشخوص التي تحمل أسماءً حقيقية، فقد استطاع الشامسي اختزال وقائعها وتصييرها بحيث لا تشكّل عقبة أمامه والقارئ في آن واحد، كما أن الاتكاء إلى الخلفية الاجتماعية والتاريخية له دور كبير ولأجل هذا يشير الشامسي إلى أن الشخوص تمثل إحدى الركائز المهمّة والدالة في السيرة الذاتية لما تمثله من ارتباط وجودي وعلاقات اجتماعية وروحية ووجدانية كان لها أثرها في سيرته الذاتية وبناء شخصيته.

ويفسّر الشامسي قائلا “إنّ مخزون الذاكرة المشحون بالعلاقات الاجتماعية والتاريخية لتلك الشخصيات والتي بعضها ما يزال يعيش بيننا، ساعد في نبش تلك الذاكرة بكل تجلياتها وقيمتها الروحية وحضورها الشخصي وبما تمثّله من قيمة اجتماعية وتاريخية وقربها وتأثيرها الشخصي في سرد السيرة الذاتية”. وذلك ساعد في رسم خط سير بناء السيرة الذاتية وتأثير الشخوص عليها ومدى واقعيتها الزمانية والمكانية، ولذلك كانت تلك الشخوص تعبّر عن حقبة زمنية ونمط حياة أراد الكاتب توثيقها بكل سماتها ومدى انعكاسها عليه، وكانت تمثّل جزءًا من واقع الحياة في تلك الفترة.

ما زالت القرية العُمانية مادة خصبة للكاتب العُماني بما تحمله من مفردات حياتية ولغوية وتاريخية وثقافية

وفاء للمكان

الكاتب هاشم الشامسي مسكون بجماليات المكان، هكذا سيرى القارئ حضوره بين مفردات وسطور هذا الإصدار، فسيشهد وفاءه لكل التجليات الملتصقة بالأرض والأزقة الضيقة، والحنين إلى الحارات القديمة، التي لا تزال تحتفظ برونقها وخصوصيتها الجذابة.

ويعلّق الشامسي بقوله “شكَّل المكان في ذاكرتي عاملا مهما في سرد سيرتي الذاتية بما يمثله المكان من أثر على العلاقات الإنسانية والاجتماعية، لذلك جاء المكان معبّرًا عن مرحلة مهمّة في حياتي وجزءًا مهمًا من تشكيل وعيي وثقافتي، ورابطًا مهمًا في بناء نسيج علاقاتي مع الآخرين، وأثر هذه العلاقات في أنسنة المكان وجعله في الإطار المتبادل لهذه العلاقات بين الإنسان والمكان، وجعل تلك العلاقات أكثر حميمية وفي فضاء مشترك، ويصعب على الإنسان تركها أو نسيانها”.

وللمفردات الاجتماعية تأثير كبير على نَفَس الكاتب، تلك المتمثلة في القرية وتفاصيل الحياة فيها، مما يمكن استغلالها لتكون ذات نتاج أدبي وارف، وكونها ذات نسق معيّن فهي لا تزال توجد مساحة كافية في الأدب العُماني، حيث استطاع الأدب صقل هذه المفردات، وهذا ما يؤكد عليه الكاتب هاشم الشامسي حين قال “ما زالت القرية العُمانية مادة خصبة للكاتب العُماني بما تحمله من مفردات حياتية ولغوية وتاريخية، ودورها في ترسيخ عادات اجتماعية وسلوكية وثقافية تختلف عن نمط الحياة في المدينة”.

وللقرية العُمانية حضورها البارز في كتابات العديد من الكتَّاب العُمانيين والتي كان أبرزها رواية “سيدات القمر” للكاتبة العُمانية جوخة الحارثية، كأول عربية تفوز بجائزة “مان بوكر” العالمية لعام 2019، وقدّم لنا كذلك الكاتب ناصر الحسني كتابه “سيرة القرية، سيرة المكان والزمان”، متطرّقًا إلى الكثير من عوالم القرية وعاداتها الاجتماعية من خلال ذكر بعض الشخوص فيها مثل شيخ القرية.

هنا يرى الشامسي أنّ القرية العُمانية بمفرداتها المختلفة كانت مادة خصبة للكثير من الكتابات والكتّاب العُمانيين منذ القدم وكان لها دور بارز في ظهور الكثير من الكتّاب العُمانيين مثل سيف الرحبي وزاهر الغافري ومحمود الرحبي وأحمد الرحبي ومحمد سيف الرحبي ومحمد الرحبي، هؤلاء كلهم خرجوا من قرية سرور السمائلية وكذلك الكاتبان عادل الكلباني وعبد يغوث من قرية مقنيات بولاية عبري وغيرهم الكثير من الكُتّاب، وقدّم الشاعر عادل الكلباني سيرته الذاتية من خلال كتابه “مقنيات.. وطن وطفولة” – حسب قوله، كما قدّم الكاتب سليمان المعمري كتابه عن قريته الردة بعنوان “كائنات الردة” التي عايشها منذ طفولته في ولاية صحم وهو ساكن بحواريها وأزقتها وشاطئها وشاهد على تحولاتها المدنية الحديثة.

14