بورجوازية العاصمة تونس وهموم مدن الداخل

منذ الخامس والعشرين من يوليو الماضي، تغرق العاصمة التونسية في الجدل بشأن الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد، والتي أفضت إلى تجميد البرلمان وإقالة حكومة هشام المشيشي، وما تلاها من صراع مع النقابات والقضاة حول الإصلاح. لكن قضايا المناطق الداخلية وأخبارها مختلفة جدا، وهي أبعد ما يكون عن ترف المعارضة السياسية والاعتصامات وإضراب الجوع التي تلجأ إليها بعض الوجوه السياسية التي خسرت نفوذها.
هناك عوالم متعددة في دولة واحدة، عالم العاصمة السياسي والحقوقي والإعلامي، وهو يهم فئة محدودة ممن استفادوا من الثورة بشكل أو بآخر، وعالم ثان للأحياء الشعبية، حيث أزمات البطالة والنقل وفوضى الخدمات التي باتت الدولة ما بعد 2011 عاجزة عن الإيفاء بها ولو بالحد الأدنى كما كان يحصل في السابق. وهناك عالم ثالث هو عالم مدن الداخل الفقيرة المهمشة والتي أدارت الدولة ظهرها لها بشكل كامل.
في العالم الأول، عالم العاصمة تونس، تطفو أخبار البورجوازية السياسية وحكايات الفساد والمحسوبية، ويتركز الخطاب على نقد السلطة الانتقالية وتسريب أخبار كثيرة بشأنها لإظهارها في صورة الطبقة الفاسدة التي تهزها الصراعات وتصفية الحساب والارتهان للخارج.
Û السياسة بالصورة التي عاشتها تونس في السنوات العشر الماضية ليست سوى ترف بورجوازي يخدم فئة صغيرة حولت السياسة إلى وظيفة لجمع المال
والهدف هو قطع أمل التونسيين في البحث عن التغيير وبروز طبقة سياسية جديدة نظيفة وغير خاضعة للوبيات المال والفساد التي تتحكم في كل مناحي الحياة؛ في الإعلام والسياسة والسياحة والأعمال والرياضة.
ليس مهما أن تطول تلك القصص المزيفة، المسربة على نطاق واسع، أعراض الناس وتهز أسرهم ومهنهم وأعمالهم. فذلك آخر ما يهتم له الكثير من السياسيين، وهناك ماكنة تشتغل بشكل لا يتوقف على مواقع التواصل من أجل توفير الأخبار المفبركة ونشرها على نطاق واسع ضد السلطة السياسية وضد الخصوم سواء أكانوا في صفها أم من معارضيها.
المهم ألا تستقر الأوضاع على حال يمكن أن يجعل الناس في لحظة وعي لا شك أنها ستقود إلى محاسبة الطبقة السياسية بأشكال مختلفة أولا من بوابة الانتخابات بالتصويت العقابي أو بالمقاطعة أو بالمراهنة على شخصية جديدة لا علاقة لها بالسياسة كليا امتلكت الأفكار والبرامج أم لم تمتلك، المهم أن تكون نظيفة مثلما حصل مع انتخاب قيس سعيّد في 2019، وهذا الاتجاه هو الذي دفع أحزابا مثل النهضة للتصويت لقيس سعيّد في الدور الثاني وعدم دعم الحليف الحكومي نبيل القروي خوفا من أن تصنف شعبيا على أنها في صف الطبقة الفاسدة.
كانت مناورة لتجنب الوقوف بوجه المد الشعبي اليائس من التغيير التقليدي والباحث عن شيء جديد مجهول ليكتشفه على أرض الواقع، المهم ألا يكون فاسدا. لكن تلك المناورة لم تمنع من القطيعة بين الشارع التونسي والسياسيين، حيث يحمل الناس الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تعيشها البلاد للحكومات السابقة، فهي التي أهملت الاقتصاد وأغرقت القطاع الحكومي بالتوظيف العشوائي، وعمدت إلى زيادة الرواتب لقطاع غير منتج، ما قاد إلى التضخم وارتفاع الأسعار.
لا ينظر سكان الأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة والمدن الكبرى، وسكان مدن وقرى الداخل التي تعرف بمناطق الظل، إلى عالم السياسة البورجوازية إلا في سياق تحميله المسؤولية التامة عما يجري بقطع النظر عن التفاصيل ومن تحمل مهمة الحكم ومن كان في المعارضة، حيث لم تنتج تلك الطبقة سوى الفساد والمحسوبية وقادت إلى تفكك الدولة.
يمكن للمتابع أن يقيس مدى تفاعل الشارع مع الطبقة السياسية التقليدية وشعاراتها وحملاتها المكثفة على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك الذي يمثل وجهة الملايين من التونسيين، من خلال التظاهرات التي يدعو إليها هذا الطرف أو ذاك وخاصة حركة النهضة، كونها الحزب الأكثر تنظيما، ليجد أن العدد لا يتجاوز بضعة آلاف أغلبهم وجوه حزبية قديمة تحولت لديها السياسة إلى مهنة تقتات منها، فيما يختفي الشباب تماما أو يكاد من هذه الأشكال الاحتجاجية، لسبب بسيط وهو أن السياسيين فقدوا التواصل مع الناس الذين اكتشفوا أنه تم توظيفهم سياسيا وانتخابيا في معارك خاصة بأحزاب لا تفكر سوى في التمكين لنفسها داخل الدولة.
ستكتشف الأحزاب التي دعت إلى مظاهرة الجمعة أنها مهما حشدت من أنصار وأصدقاء وسعت لبناء تحالفات بين الفرقاء المتناقضين فلن تجمع إلا القليل القليل قياسا إلى عدد الناس الغاضبين الذين لم تعد تغريهم الشعارات ولا التحشيد ولا الظهور الإعلامي الخارجي، ولا بيانات هذه المنظمة الحقوقية أو تلك. فما بعد الثورة ليس كما قبلها، ولذلك من الصعب أن تجلب المظلومية ولا التباكي على حقوق الإنسان تعاطفا جديدا مع أحزاب جربت ففشلت وتحاول أن تهرب إلى الأمام من بوابة الصدام مع السلطة الجديدة.
هموم مناطق الداخل أكبر من الدفاع عن أجندة حزب سياسي حكم البلاد ولم تكن لديه خطط ولا أفكار وحين تمت الإطاحة به عاد ليحشد الناس الذين تخلى عنهم وأهمل مطالبهم من أجل أن يتظاهروا لأجله ويعيدوه إلى كرسي السلطة ليعقد تحالفات جديدة على حساب مصالحهم.
تغيب الدولة بشكل كامل الآن في المناطق الداخلية بعد أن أضعفتها الأحزاب وأحيت علاقات تقوم على القبلية والعشائرية والمناطقية بدلا من تدعيم حضور الدولة وممثليها المحليين في حل المشكلات. كان هم الأحزاب كسب الولاء والحصول على فرص لقيادة المدن والقرى الصغيرة من بوابة الحكم المحلي، ولأجل ذلك سلمت المصالح الحيوية للناس إلى نافذين محليين.
Û عالم العاصمة تونس، تطفو أخبار البورجوازية السياسية وحكايات الفساد والمحسوبية، ويتركز الخطاب على نقد السلطة الانتقالية
وفي خضم غلاء الأسعار وهيمنة المحتكرين وغياب الرقابة بات المزارعون الصغار يطاردون علف الحيوانات من مكان إلى مكان حتى أنه صار أغلى من مادة الدقيق التي يستعملها الناس في صنع الخبز، ما اضطر الكثيرين إلى بيع دوابهم بأثمان لا توفر حتى تكاليفها.
وقضية العلف ليست سوى جزئية صغيرة من هموم مناطق الداخل التي تعطلت فيها كل مشاريع الدولة التي أعلنت خلال السنوات العشر الأخيرة، خاصة مشاريع البنية التحتية والطرقات، فهناك مشاريع توقفت قبل البدء فيها بعد أن صرفت الأموال المرصودة لها في مجال تدعيم الصرف الحكومي مثل الطريق السيارة التي تربط العاصمة تونس بالوسط والجنوب الغربي (القيروان وسيدي بوزيد والقصرين وقفصة وتوزر)، وهناك مشاريع توقفت بعد تنفيذ أجزاء منها بسبب عجز الحكومة عن دفع المستحقات للمقاولين الذين ينفذونها، ما اضطرهم إلى التوقف.
وفي الوقت الذي يجري فيه الحديث عن خطط حكومية تساعد سكان الداخل التونسي على البقاء في مناطقهم، فإن الدولة لم تنفذ أيا من وعودها بشأن دعم المشاريع الحكومية والخاصة لمساعدتها على الاستقرار في تلك المناطق وتوفير فرص العمل للآلاف من خريجي الجامعات الذين يضطرون للنزوح إلى المدن الكبرى بحثا عن وظائف هامشية.
وبالنتيجة، فإن السياسة بالصورة التي عاشتها تونس في السنوات العشر الماضية ليست سوى ترف بورجوازي يخدم فئة صغيرة حولت السياسة إلى وظيفة لجمع المال، ولا يمكن أن تعبر بأي حال عن آمال سكان الأحياء الشعبية ومناطق الداخل الفقيرة.