بلاد الطرنني

في الوقت الذي تتسع فيه دائرة الأزمات، تحتاج أي بلاد في الدنيا إلى الناس لإنقاذها. والإنقاذ لا يتم بالشعارات الكبيرة، ولا بإخراج الكتب الصفراء وعرضها على طاولة الرئيس أو الملك أو الأمير. الإنقاذ يكمن في التفاصيل الصغيرة بأن يقوم الناس بأعمالهم على أكمل وجه، وينسوا للحظة أن ثمة دولة وحاكما وأحزابا ونقابات ومطالب ومناورات.
هناك نوع خاص من الدول التي تعلم مواطنيها أن يظلوا في حالة انتظار دائم لأجل أن تتولى الدولة حلّ أزماتهم، لا شغل ولا مشغلة.
يخال الناس أن هذا النوع من الدول قد ذهب مع التجارب الاشتراكية التي زرعت في الناس التواكل وانتظار “طابور الجمعية” و”فراخ الجمعية”.
تونس لم تحكمها الاشتراكية، وحتى وإن طبقت هذا النظام فلفترة محدودة ضمن المناورة السياسية التي كان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يتقنها لتسجيل النقاط على خصوم الداخل والخارج. تجربة بورقيبة كانت تجربة ليبرالية في الاقتصاد والسياسية وخاصة الانفتاح على قيم الغرب الإيجابية لتطوير واقع الناس ومدونة الأسرة وتشريعاتها.
لكن هذه التجربة الليبرالية حملت في داخلها روحا اشتراكية مناقضة لطبعها، وهي أن الدولة هي التي تنتج وتوزع الأرزاق، هي التي تتداين لتوفر الرواتب والعلاوات لقطاع عام كبير جدا يريد كل مسؤوليه سيارات وظيفية وكوبونات البنزين والأكل وبدل السفر.
وفي هذا النظام المريح والسهل في دولة لا تنتج نفطا ولا غازا تنتشر النقابات في كل مؤسسة صغيرة أو كبيرة، وهي لا تكتفي بالمطالب التقليدية مثل زيادة الرواتب سنويا، فهذا صار أمرا مألوفا خاصة بعد ثورة 2011، حيث بات الجميع يطالب هات هات.
المثير في “نضال” هذه النقابات أن كل شيء صار مباحا، فمن حقها أن تطالب بثمن حلويات العيد وخروف العيد ولوازم الأولاد في العودة المدرسية، ومنحة العطلة السنوية، وأن تكتري لهم الدولة شققا بأسعار رخيصة لإجازات الصيف.
ويا ويل الحكومة لو أنها قالت لا، أو أزعجت نقابيا صغيرا في مكان ما من بلد العجائب. كثيرا ما تسمع أن الميترو أو القطار أو الحافلات قد توقفت عن العمل لساعات لأن الشرطة اشتبكت مع موظف بسيط من موظفي النقل، أو أن مواطنا تناقش معه فأسمعه كلاما لم يعجبه أو مسّ مشاعره.
آخر نكت النقابات التونسية أن نقابة التعليم نامت سنة كاملة لا حس ولا خبر، ثم خرجت بقرار حجب الأعداد عن التلاميذ لأن الوزارة لم تستجب فورا لمطالبها. تصوروا تلميذا او طالبا يدرس سنة كاملة دون أن يحصل على الأعداد، فلا نجاح ولا هم يحزنون، ويمر العام عاما “أبيض” وكأن شيئا لم يكن.
بلاد الطرنني على رأي الفيلم التونسي الشهير، وهي كناية عن البلاد التي لا يحكمها المنطق.