بغداد الدولي للمسرح يواصل بثّ رسائل التنوير بأعمال تجريبية

جسدت العروض المقدمة ضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح نوعا من التوجه إلى مسرح معاصر مختلف عن الكلاسيكيات والمقاربات المعتادة، وهو أمر بالغ الدقة في إقحام جمهور بغداد المتعطش للفن المسرحي في أعمال تجريبية تخوض رحلة شاقة لأجل التنوير وتقدم في مجملها خطابا حداثيا بصريا وجماليا ولغويا وفكريا.
قدمت الدورة الثالثة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح، التي تتواصل فعالياتها إلى غاية الثامن والعشرين من أكتوبر الجاري، في يومها الثاني ثلاثة عروض مسرحية من العراق والأردن والجزائر، اختلفت في أنماطها لكنها تشابهت في اتجاهها نحو كشف الحقائق وإعادة تجسيد لمسارات الرحلة الإنسانية التراجيدية والكوميدية أحيانا.
ونكتفي في هذا المقال بالإطلالة على عرضين هما “Gps” للمخرج الجزائري محمد شرشال، ومسرحية “خلاف” لمهند هادي. وهما من العروض المتنافسة على جوائز المهرجان.
الخلاف يخلّف التطرف
يحاول المخرج العراقي مهند هادي في مسرحيته “خلاف” التي عرضت مساء الجمعة على خشبة مسرح الرشيد أن يتابع جذور ظاهرة التطرف والإرهاب من خلال علاقة أمّ ماركسية متشددة بابنها الذي يختار طريقا مغايرا، فيتجه للانتماء إلى جماعة إسلامية متشددة، وهذا الابن يجسد صورة مغايرة للمتطرفين، الذين ترسمهم على أنهم ذوو لحي كثيفة وملامح بشعة، إذ يقدم العمل المتطرف شابا رصينا، لكن التطرف يتسرب إلى أعماقه كنوع من الانتقام.
العمل تميز بسينوغرافيا رمادية، الرمادي طغى على كل مفاصله، من الأبواب أو البوابات المتحركة إلى الستائر التي تغطيها، إلى ملابس بعض الممثلين، وخاصة من يؤدي دور الابن.
تعامل الممثلون مع نص متشابك يحاول أن يفكك الإرهاب من زاوية غير تقليدية، لكن الأداء كان متفاوتا، خاصة من ناحية الصوت الذي لم يكن واضحا علاوة على ثقل الحركة والحوارات التي لم تساهم في بلوغ فكرة العمل بشكل جيد.
أقحم المخرج شخصية المحقق لتحريك الخيوط السردية في العمل، وللبحث عن مصير الابن، الذي لا نعرف من خلال حواراته مع أمه إن كان شبحا أو حقيقة، علاوة على استخدامه أكثر من مرة تقنية الفلاش باك والإعادة، وساهم ذلك نسبيا في الدفع بالعمل دراميا لكنه لم يسحبه من الثقل الذي عانى منه في بعض أركانه.
الخلاف غير الاختلاف، إنه التضاد والتصادم، وهذا ما أراد هادي بلوغه، أن يركز على ضرورة نبذ الخلافات لتحقيق التعايش ونبذ العنف والتطرف والكراهية، لكن هل وصلت الفكرة بعمقها الذي أراده لها؟ أعتقد أن ارتباكا أصاب العرض الذي يمكنه أن يكون أفضل بكثير مع الاشتغال أكثر على تجنب المجانية وخاصة على طاقة الممثلين الذين تميزت من بينهم من قامت بتأدية دور الأم.
وخير العرض اللغة العربية للتواصل، وهو ربما يأتي رغبة من مخرجه في أن يحقق حضورا أوسع، لكن ورغم عمق بعض الحوارات فإنها لم تنجح في خلق حالة تكامل بين الممثلين، وحتى الصراعات كانت ضعيفة، وهو ما خفف من البعد الدرامي، وربما هو خيار من الكاتب أن يؤسس عمله على نوع من الوثائقية.
ما يؤكد الوثائقية أو التسجيلية التي انتهجها هادي اعتماده على الراوي صوتيا، فهو الذي كان يحرك أركان العمل ويدفع بنا من مشهد إلى آخر، لكن الأداء التمثيلي كان متذبذبا قليلا وهذا مفهوم نظرا إلى دقة هذا النوع من الأعمال الذي يتطلب تركيزا كبيرا واشتغالا أكبر على التفاصيل الدقيقة، وخلق حيل دراماتورجية للخروج من رتابة الخطيّة.
المسرح ابن الموسيقى
كان جمهور مهرجان بغداد الدولي للمسرح ليل الجمعة على موعد مع العرض الجزائري “Gps” لمخرجه محمد شرشال، عرض سيسيل الكثير من الحبر والأفكار في مقاربته، وهو العرض الذي توج منذ سنتين بجائزة أفضل عرض متكامل في المهرجان العربي للمسرح.
كيف نجح عرض بلا حوار، بلا كلمات، في شد الجمهور لما يقارب الساعة والنصف، والتفاعل معه بالضحك أو الاستحسان؟ كيف حقق هذا العرض الوصفة الصعبة في أن يتجاوز اللغة، وأن يجمع مسارح مختلفة في عمل واحد؟
مزج شرشال في عرضه بين الأقنعة والدمى والأداء الحركي، علاوة على بعض الأصوات التي يصدرها الممثلون، الذين يلعبون أكثر من حالة، وأقول حالة إذ نحن لسنا أمام شخصيات تقليدية محددة الملامح، بل حالات تتغير بحركة الدراما بين صعود وخفوت.
مسرحية "خلاف" تؤكد أن الخلاف غير الاختلاف، إنه التضاد والتصادم اللذان يمنعان التعايش ويسببان التطرف والكراهية
ولعل ما عوض أيضا غياب النص السينوغرافيا المميزة، سواء الكتلة الحديدية التي انطلق منها في بداية “خلقه” لمسارات الدراما، أو من بعد المرأة في شكل بيت وزوجها وحملها وإنجابها لأطفال كثيرين يخرجون بأقنعة مسدودة الأعين، وكأنهم عميان عن حقيقة أن توجد، ولعبة حبال السرة التي تمتد وتلتف، وصولا إلى الساعة والكنبة والجريدة التي تتخفى خلفها بعض الشخصيات، والمرأة المنقبة التي يحرسها زوجها بجهاز إنذار كأنها مجرد سيارة.
يكبر الأطفال ويدخلون المدرسة التي يقودها تياران اثنان، الأول المدرسة الجميلة بما توفره من محبة ودعم وتحفيز والثاني المديرة البشعة وما تفرضه من قيود بالقوة والترهيب، ما يخلق أجيالا ناشئة على الخوف والقلق والانضباط الكاذب والنظام الكاذب. ويصل العمل إلى آخر مراحله وأكبرها، هو التقاء شخصيات، بلا أقنعة، في انتظار القطار، الذي لا يتوقف في محطتها.
يذهب بنا العرض في رمزياته إلى الكثير من المناطق، في جولة منذ “الخلق” المسرحي على الخشبة إلى الولادة والنشأة وصولا إلى انتظار المسافرين المختلفين بحقائبهم للقطار، وما القطار في الأدبيات العالمية إلا رمز من رموز الطريق والرحلة، رحلة الإنسان في الزمن والأمكنة، الزمن خاصة ذاك الذي بدأ به العرض مع منح الكتل المعدنية ساعة ليبدأ الزمن، وما انتهى به العرض بنزع الساعة من المحطة.
الحركات مدروسة بعناية، تحملنا بين الترقب والانتظار، وتبث نوعا من التمرد، في تشكيلها للعلاقات بين المنتظرين، علاقات متعددة الأوجه، بين الصراع والحب والتكامل والتنافر، علاقات تختصر جزءا من المسار البشري بين الشهوة والتقارب والتنافر والعلاقات القائمة على المال والمصلحة والغريزة، وأخرى قائمة على الفن والحب ويتحداها الجميع عدا العاشقين المتذبذبين، كلها تقاطعات خدمت مسارا دراميا في مساحة ضيقة، هي المحطة، وفي غياب اللغة، وابتكار أشكال أخرى من الحوار بترديد أصوات أو حروف لما يشبه كلمات جديدة غريبة.
الضحك الذي بثه العرض في اعتقادي هو ضحك مدروس عمل كمساحات بين مشهد ومشهد في مسار العمل، وكان نوعا من السخرية السوداء في عمقه، وقد أجاد المخرج في استعمال الأقنعة، ولعبة الدمى، وتشكيل فضائه، خاصة بإضاءة جانبية تحاول أن تتقمص دور ضوء في آخر النفق.
واختتم العرض بعودة كل هؤلاء من حيث جاؤوا من رحم الأم – البيت، وسقوط أحدهم ممن دهسهم القطار ليتحول إلى خردة بشر مسجاة، في نوع لا هو تشاؤم ولا تفاؤل، بقدر ما هو دعوة إلى التفكير في مسيرة الإنسان من شخصيات أو حالات بسيطة.
واعتبرت الكاتبة رشا عبدالمنعم في جلسة نقاش العروض أن “مسرح التعبير بالجسد لغة عالمية أكثر صدقا من المنطوق”، وأن “صوت الجسد أعلى” وهذا ما يتأكد في عرض شرشال.
وعبر شرشال عن سعادته بالعرض على خشبة المسرح الوطني العراقي، قائلا “في كل عمل أشتغل عليه أكتشف ضعفي. فأنا أتعلم من تجاربي”.
الممثلون تعاملوا مع نص متشابك يحاول أن يفكك الإرهاب من زاوية غير تقليدية، لكن الأداء كان متفاوتا، خاصة من ناحية الصوت
وأضاف مخرج العرض “عملي جاء من معاينتي لواقع المسرح الجزائري والعربي عموما، إذ حاولت البحث عن الخيال في المسرح”، مشددا “أنا لا أعادي النص المكتوب، أحترم النص الدرامي المكتوب بحرفية، لكنني أعادي الثرثرة والإسهابات اللفظية والنص الديماغوجي الذي يضع الجمهور موضع الرضيع”.
وبيّن “اتخذت قرارا بإلغاء الفعل اللفظي ليس النص، فالدراما ليست الحوار فقط”، متابعا “أنا الآن أجرب من خلال مختبر ولم أتخذ قراري بعد باتباع نفس النهج في عملي المسرحي اللاحق، لكن أنا أريد دائما أن أتخلص من سلطة الكاتب، فالنص المكتوب مسبقا يضع كل الفريق تحت سلطته، بينما النص يكتب بعد اكتمال العرض”.
وشدد المخرج “أبحث عن الفعل المسرحي وكيف أنتج عملا ممتعا”، مواصلا قوله “المسرح ليس أب الفنون، المسرح ابن الموسيقى”، وواصل “المسرح باللغة يصبح محليا وعند نزع اللغة يكون أكثر عالمية”.
وحول تصنيفه لهوية عرضه الذي دمج الكثير من الأنماط المسرحية، قال شرشال “العرض الذي يتفرج عليه الأوكراني والروسي والإسباني وغيرهم ويتفاعلون معه تلك هي الهوية الحقيقية”.