بصريات توم يونغ: ثورة على موت الذاكرة

عندما يُذكر الفن التشكيلي من خلال توثيقه لمعارك وحوادث مفصلية جرت خلال التاريخ، تعود الذاكرة بشكل خاص إلى الأعمال الفنية التي برزت قبل حلول القرن العشرين، أي قبل أن تحتل الصورة الفوتوغرافية مكانة الحفاظ على اللحظات الحاسمة في حياة الشعوب.
غير أن اليوم هناك فنانون كثر اختاروا الفن التشكيلي كوسيلة لتوثيق الواقع بحرفية وفنية عالية. نذكر من هؤلاء الفنانين التشكيلي الإنكليزي توم يونغ الذي استقر في لبنان منذ أكثر من عشر سنوات بعد أن قام بعدة زيارات كانت كفيلة بأن تجعله يتعلق ببلد يعجّ بالحيوية على الرغم من المآسي التي عاشها ويعيشها اليوم، وإن بشكل مختلف.
مؤخرا، قدّم الفنان مجموعة لوحات توثق لحظات الثورة اللبنانية. الثورة على الفساد، ولكن أيضا الثورة على موت الذاكرة والدعوة إلى إعادتها إلى الحياة كي يبدأ الشفاء التام من الحرب اللبنانية ومن جميع النعرات الطائفية وأشكال الحروب الخفية والمتنوعة التي لا زالت تنبض من تحت غبار الإنكار.
كل من يعرف عمل الفنان الإنكليزي يدرك أن تبنيه لتصوير مشاهد مختلفة من الثورة اللبنانية عبر مواكبة حوادثها وتفاصيلها ليس بالجديد أبدا، بل إنه استكمال لمسيرة طويلة بعدد 12 معرضا فنيا تشكيليا سابقة مطعما بعضها بفن التجهيز، سلط فيه يونغ الضوء على الأمكنة والمباني التي لم يُصر إلى ترميمها بعد الحرب أو تلك التي انتصبت منتظرة القرار بهدمها في أي لحظة من اللحظات، لاسيما أنه ليس في القانون اللبناني بند يشير إلى الحفاظ على المباني التراثية مختلفة الأنواع والتي تعود إلى عصر الانتداب الفرنسي والعثماني أو إلى الأماكن التاريخية الأخرى التي تميزت بهندسة مميزة ارتبطت بزمن ماض دون آخر. وتنضم إلى هذه “المحميات” غير “المحمية” مبان أخرى عادية جدا، ولكنها تحوّلت إلى صروح رمزية تُذكر بالحرب اللبنانية كمبنى برج المر، مثلا.
من المعروف أنه منذ أكثر من عشرين عاما ولدت ونشطت جمعيات كثيرة ومبادرات فردية دفعت باتجاه الحفاظ على بعض المباني، ونذكر منها “مبنى بركات” الذي تحوّل بعد جهد جهيد إلى “مبنى الذاكرة اللبنانية”، وهو الواقع في ما جرى على تسميته خلال الحرب اللبنانية بمنطقة “خط التماس” أي تلك المنطقة الفاصلة ما بين بيروت الشرقية والغربية آنذاك.
لا زال لبنان بشكل عام، وبيروت بشكل خاص، يعيش حربا ضروسا ضد امحاء التراث الهندسي وباقي المباني المُكتسبة لمعان تعني لجميع اللبنانيين، بغض النظر عن اختلافاتهم التي يُرجى من الثورة اللبنانية الحالية أن تزيل كل ما يشوبها من آثار الضغائن تجاه الآخر الشريك في الوطن.

لم يخرج الفنان توم يونغ الغريب/ القريب من الوجع اللبناني من هذه المنظومة، بل كان عنصرا فاعلا في مكافحة سبات الذاكرة من خلال أعماله الفنية الكثيرة في ما يتعلق بداية بلبنان وبيروت العصر الذهبي، وصولا إلى ثورة لبنان التي يعتبرها من أجمل ما رآه، وهو الذي يؤكد أن كل كوابيس الماضي بوسع الفن أن ينكأها ويطهرها ليشفيها من أجل مستقبل أفضل لكل اللبنانيين ولصورتهم عن ذاتهم.
كثيرا ما تحدّث الفنان عن حبه للمباني التاريخية والتراثية، وكيفية المحافظة على ما تبقى منها (وهي كثيرة). وذكر كيف أنه بنى لوحاته الفنية على صور فوتوغرافية قديمة وقصص أخبره إياها من عرف أو عاش في تلك المباني، أو حتى زارها في يوم من الأيام. وهكذا ظهرت أعماله واقعية تعبيرية فيها الكثير من العاطفة والبراعة في التنفيذ.
ومن الأعمال الفنية التي سلطت الضوء على لبنان الذهبي قبل اندلاع الحرب، تلك التي أنجزها عن “البيت الزهري” البيروتي قرب المنارة. ومحطة القطار في “الرياق” وأسواق صيدا القديمة. ومبنى الهوليداي آن، أحد معالم الحرب الأهلية.
وأهم أعماله الفنية هي تلك التي حققها في” فندق صوفر الكبير”، وهو فندق يعود إلى الزمن العثماني وقد كان محطة للساسة العرب والأجانب ومشاهير الفن كأم كلثوم.
أما اليوم، لاقت لوحاته عن الثورة رواجا كبيرا، لاسيما على شبكات التواصل، وقال توم يونغ عن ظروف تحقيقها “أعمالي هي في حقيقتها نتيجة مكوث فترات طويلة في مواقع الحوادث كي أتغذى بالنبض الذي يسري فيها، كي أنقله لاحقا إلى اللوحات”.
وأضاف “أهمية التعرّف على التفاصيل وعن كثب والاطلاع على الظروف الزمانية والمكانية لهذه أو تلك المظاهرة أو المسيرة أمر أساسي لإظهار الواقع بشكل فني في لوحاتي. أصغي للقصص التي يسردها الواقع فأستمد من قوة الشارع واحتدامه عفوية مروضة، سادت في العديد من أعمالي”.
ويعتبر الفنان الإنكليزي أنه سيظل يلعب دورا في دفع الناس كي ينظروا إلى الماضي وإلى كيفية امتداده إلى الحاضر.
وهو اليوم يوثق الثورة اللبنانية بصريا بما فيها من لحظات عنف، كاللحظات التي اعتدى فيها الشبيحة على الخيم في الساحات وعلى الناس المتظاهرين بشكل سلمي. ولهذا يرى أن عمله اليوم دخل في مرحلة جديدة، وهي الإضاءة على حقبة جديدة من تاريخ لبنان المعاصر، يثور فيها الشعب ضد فساد الطبقات الحاكمة منذ أكثر من ثلاثين عاما.