بسمة عبدالعزيز لـ"العرب": تدهور اللغة بين أهلها مرجعه كفّهم عن إنتاج المعرفة

اللغة التي تخاصم الواقع وتتباعد عنه لا يمكن أن تستمر وتحيا.
الخميس 2024/06/20
حقول الفكر مهما بدت متنائية فهناك دوما ما يربطها

تابعت الباحثة المصرية بسمة عبدالعزيز جذور أربعة وخمسين مصطلحا في كتابها الأخير "مقام الكلام في نكش المألوف من ألفاظ وأحوال"، في تفكيك لواقع اللغة العربية اليوم في ظل ما تعرفه المجتمعات العربية من تحولات. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الباحثة حول عدد من آرائها اللغوية.

لا تختزل اللغة في بعدها الوظيفي بل هي من أبرز مظاهر الأطوار الحضارية وتجليا للواقع المجتمعي، لذلك ما تشهده الحياة العقلية والثقافية من الضمور أو العنفوان ينعكس في المعجم اللغوي. ما يعني أنّ الكلام حول تفاوت طاقة اللغات في مواكبة حركة التطور لا يخلو من التحامل لأنّ ما يحدد مستوى اللغة وأشكالها التعبيرية مكتشفا جغرافية خطاباتها المعرفية هم العاملون أو المستخدمون، وما يؤكد مرونة اللغة هو اتساعها للمفردات المنبثقة من صيرورة البنية الاجتماعية المتداخلة مع شبكة العوامل الاقتصادية والسياسية.

والمثير للاستغراب أنّ ما تنبئ به اللغة من التدني في الأذواق والرثاثة في الفهم لا يشد انتباه من نصبوا أنفسهم حراسا للأصالة، هذا ما لاحظته الباحثة المصرية بسمة عبدالعزيز إذ تشير في مقدمة كتابها الصادر حديثا “مقام الكلام في نكش المألوف من ألفاظ وأحوال” إلى أنّ كثيرا من الرموز التي تركت أثرا على صفحات التاريخ قد امتلكت ناصية الفصاحة واللغة، أما اليوم فنادرا ما تصادف من الصفوة الحاكمة من لا يخطئ، ومن النخبة المثقفة من لا يتعثر لغويا. وما يزيد من طين الأزمة بلة أنّ الترفع على اللغة الأم أصبح علامة للاندماج الحضاري.

من الخطأ اختصار اللغة العربية في مجموعة قواعد جامدة وفصلها عن الواقع المعيش الذي يحمل تجارب خصبة
◙ من الخطأ اختصار اللغة العربية في مجموعة قواعد جامدة وفصلها عن الواقع المعيش الذي يحمل تجارب خصبة

تناول كتاب بسمة عبدالعزيز الأخير هموم اللغة وظاهرة التدهور اللغوي التي تعتبر من أعراض المرض الثقافي، تقول الكاتبة “أعتقد أن تدهور اللغة بين أهلها مرجعه كفهم عن إنتاج المعرفة بصورها المختلفة أي؛ العيب فينا وليس فيها، فمعظم النظريات والدراسات والإسهامات في حقول العلوم الإنسانية واكتشافات الفيزياء والكيمياء وضروب التكنولوجيا وغيرها؛ تأتي من خارج العالم العربي، بلغتها الأصلية، ويضطر طلاب العلم والباحثون الناطقون بالعربية إلى قراءتها واستيعابها كما هي، أو ترجمتها ما سمحت الظروف".

وتشدد عبدالعزيز على أن ذلك أمر يعرقل عمليات التفكير والتفاعل كما يعطل الابتكار، وفي ظل التخاذل عن إبداع معارف أصيلة، والاكتفاء بالنقل عن الآخرين ومحاولة اتباع خطواتهم والتشبث بأذيال التقدم الذي يحققونه بدلا من منافستهم؛ تتهاوى مكانة اللغة وتتعرض للمهانة والإهمال.

واقع العربية

يبحث كل فصل من كتابها عن جذور واشتقاقات كلمة معينة مع الإشارة إلى دلالات جديدة قد تكتسبها بعض المفردات. نسألها هل هناك مناسبة بين التحديات الواقعية والكلمات التي وقع عليها الاختيار، لتجيب “نعم، في بعض المرات كان اختياري للكلمة نابعا من حدث أو ظرف ما، ألقى بظلاله على الواقع وكان من الطبيعي أن ينعكس على محتوى الكتابة مثل فصلي ‘شرف‘ و‘بذاءة‘، وفي مرات أخرى كان الاختيار بمنزلة أمان وتطلعات أحببت طرحها ومشاركتها مع القراء مثل فصل 'حرية'".

وتضيف “كثيرا ما نحوت إلى استدعاء مفاهيم نأينا عنها ولم نعد نذكرها من قبيل ‘صحوة‘ و‘عدل‘ و‘مقاومة‘؛ لكنني جربت أيضا الدخول في تحديات ذاتية؛ فكنت في بعض الأحيان أقرر أن تكون المقالة أو الفصل عن أول مفهوم يطرق ذهني عشوائيا، لأجول معه وأشاكسه دون ترتيب أو إعداد مسبق".

لا تكتفي مباحث الكتاب بتقديم المستوى المعجمي للكلمة بل تتوارد في ذات السياق النصوص الشعرية والأمثال الشعبية فضلا عن الإحالة إلى الأغاني والأفلام، حول إذا ما كانت تعتقد بأن هذه المعطيات هي محيط حيوي للغة، تقول عبدالعزيز "نعم هي المحيط الجاذب للناس جميعا؛ إذ تمثل تفصيلات حيواتهم اليومية القريبة، وأعتقد أن اللغة التي تخاصم الواقع وتتباعد عنه، لا يمكن أن تستمر وتحيا، والحق أن كثير الأمثال تحافظ على اللغة وترسخها، وتثبت بالأدلة القاطعة براعتها وعبقريتها في الإيجاز، كذلك فإن الأغاني والدراما بوجه عام تضيف إلى اللغة وتمنحها بعدها الإنساني الأشمل وتوطن العبارات المستخدمة في الوجدان؛ بل ويحفظ المشاهدون بعض العبارات اللافتة من مشاهد درامية تركت فيهم أثرا، ولا أتصور إمكانية اختصار اللغة العربية في مجموعة من القواعد الجامدة، وفصلها عن الواقع المعيش الذي يحمل تجارب خصبة ثرية؛ يعبر عنها أصحابها من خلال ابتكار الألفاظ المناسبة لكل موقف، ونحت مشتقات جديدة أو استخراج أخرى قديمة كانت قد توارت ثم عادت لفضاء الكلام العادي الدارج، مبرهنة على الحيوية والمرونة".

من خلال تنقيبها في الحقل اللغوي تلاحظ عبدالعزيز أن اللغة وليدة المجتمع، ولا حاجة لها إذا ما كان الإنسان معزولا وحيدا، ولا شك أن الفرد يحمل من الدوافع والأهداف ما ينعكس على لغته، وأن بناءه الشخصي وسماته النفسية يتجليان في تفاعله مع الآخرين داخل المجتمع.

◙ اللغة وليدة المجتمع ولا حاجة لها إذا ما كان الإنسان معزولا وحيدا، فما يحمله الفرد من دوافع وأهداف ينعكس على لغته

وتتابع "ينتج عن هذا التفاعل مجموعة من الخصائص التي تميز المعجم اللغوي في كل حقبة زمنية، وبينما ينتقي المزاج العام ألفاظا بعينها تعكس الأحوال وتجسدها على أفضل ما يكون، فإنه يستبعد أخرى ويتجاهلها وقد ينبذها لفترة تطول، وغالبا ما تحمل المفردات والألفاظ والتعبيرات المنتقاه بعدين؛ نفسي واجتماعي، فالشخص الغاضب الساخط على وضعه على سبيل المثال؛ هو واحد ضمن مجموع قد يحمل الشعور نفسه، والمجموع قادر على سك لغته الخاصة وإقرار البلاغة التي تناسب حاله وتمكنه من التواصل السلس والوصول إلى غرضه في يسر ودقة".

ما برح الجدل قائما عن الفتور بين اللغة العربية والجيل الواعد لأنه جيل لا يجد في اللغة الأم ما يلبي متطلبات العصر، نسألها إن لاحظت في مستوى استقبال كتابها ما يخالف هذا الرأي، لتجيبنا “نعم وكان أمرا غريبا أن أصادف من الأجيال الأصغر عمرا من يسعى لتحسين لغته ومن يسأل عن مراكز يمكن أن يتلقى فيها ما يساعد على جعل أسلوبه أنضج وأكثر بلاغة ووصولا للمتلقيين، بل إن الكتاب نفسه ما كان ليجد طريقه سريعا للجمع والطباعة والنشر لولا أن وصلتني من عدد من القراء والأصدقاء رسائل تطلب أن يكون لمقالاتي المنشورة أسبوعيا في جريدة الشروق كتاب يضمها، ويجعل الوصول إليها سهلا يسيرا".

وتضيف عبدالعزيز “كذلك صادفت من القراء من يتفاعل مع الكلمات التي أنتقيها ويفكر فيها وربما يضيف إليها من النماذج والأمثلة والأغنيات وأبيات الشعر ما أكون قد غفلت عنه أو اختزلته لضيق المساحة. هذا الشكل من التواصل أبهجني بحق، وجعلني أكثر تفاؤلا لا فيما يتعلق بمستقبل اللغة وحدها؛ بل بصورة أكثر شمولا واتساعا، فحيوية المجال الثقافي تكمن في تفاعل الشخص المتلقي مع المادة المطروحة، ومادام الاشتباك قائما فالذهن يقظ وقادر على تغيير الواقع مهما بلغت قسوته، والحق أن الفتور الذي نتحدث عنه قد يكون قشرة سطحية وحسب، تزول ما توفر الظرف المناسب ويظهر أسفلها جوهر أكثر عمقا وأصالة".

حديث اللغة

◙ ما تنبئ به اللغة من التدني في الأذواق والرثاثة في الفهم لا يشد انتباه من نصبوا أنفسهم حراسا للأصالة
◙ ما تنبئ به اللغة من التدني في الأذواق والرثاثة في الفهم لا يشد انتباه من نصبوا أنفسهم حراسا للأصالة

صدرت لبسمة عبدالعزيز أعمال روائية وكتب في مجال اختصاصها (الطب النفسي) لعل أشهرها كتاب العلامة "ذاكرة القهر"، نسألها ماذا أضاف لها كتابها "مقام الكلام في نكش المألوف من ألفاظ وأحوال” كروائية أولا ومن ثم كطبيبة نفسية؟ فتجيبنا "أضاف لي 'مقام الكلام' بعدا جديدا من البحث والتجريب لم أكن أضعه ضمن أولوياتي من قبل، والحقيقة أنني بدأت كتابة مقالات ذات طابع متمحور حول اللغة هربا من مقص الرقيب الذي دأب على اقتطاع عبارات وفقرات وحذفها من مقالاتي المعتادة؛ لسبب لا يخفى على القارئ".

وتضيف "لقد ظننت أن في حديث اللغة ما سيجعل النص آمنا محايدا؛ لكني اكتشفت تدريجيا أن في هذا النوع من الكتابة براحا لإسقاط وتورية واستعارات، يفوق ما للنص المباشر بمراحل شاسعة، واكتشفت أيضا وبسعادة غامرة؛ أن القراء قد أعجبتهم اللعبة فراحوا يفتشون عن النواقص ومواطن المحذوفات، ويزيدون من اهتمامهم بالمفردات التي استعملتها؛ بل ويسألون عن السبب إن تأخر ظهور المقالة على صفحتي، وهو ما جعلني أعظم اهتماما بما اخترت عفوا".

تتابع عبدالعزيز "ازداد حرصي على تقديم الأفضل وتجويد الأسلوب والمعنى في كتاباتي الأخرى وأظن أن هذا الاهتمام ظهر إلى حد ما في روايتي الأحدث ‘أعوام التوتة‘، ويأخذ محله أيضا في كتاباتي الحالية التي أعكف عليها. لا مفر من الاعتراف بأنني لم أظن أبدا أنني سأكتب مقالات لها علاقة باللغة فيما اهتمامي الأول بالسلطة المهيمنة وعلاقتها بالأفراد، وهو المبحث الذي دارت حوله أغلب كتبي سواء كانت في مجال الأدب أو مضمار العلم، لكني أدركت بحكم مهنتي التي اكتفيت منها في الوقت الحالي بمجال الإدارة، أن كل خطوة صغيرة وربما غير ملحوظة هي إضافة أكيدة لصاحبها، وأن حقول الفكر وإن بدت متنائية وبعض الأحيان متخاصمة؛ فهناك دوما ما يربطها ويشدها إلى بعضها البعض بل ويجعلها في تكامل.

وجدير بالذكر أنّ بسمة عبدالعزيز كاتبة وطبيبة نفسانية وفنانة تشكيلية لها عدة مؤلفات في مجال اختصاصها هذا إضافة إلى إبداعها الروائي الذي رصدت فيه ظواهر مرتبطة بمصير الإنسان في المجتمعات العربية.

12