بسام الشكعة يرحل مع حلمه القومي الذي استحال هشيما

خطابه السياسي الزاخر بالشعارات الوطنية التي تشد من أزر الناس أمام جبروت الاحتلال ساهم في تعزيز مكانة الشكعة، فانتخبه الشعب رئيسا لبلديه نابلس، لكن المحتلين أصدروا قراراً بطرده من وطنه.
الأحد 2019/07/28
رئيس بلدية نابلس الذي أكمل حياته بساقين من وهم

أطبق بسام الشكعة جفنيه وغادر الدنيا. هو رجل استثنائي، يُلخّص بفصول حياته وأحداثها وأحلامها ومآلاتها أو انكساراتها، تاريخ النُخب السياسية الفلسطينية في مراحل ما بعد نكبة 1948. فالشكعة لتوّه، كان واحداً من الشُبان في مدينة نابلس، الذين انخرطوا في السياسة في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، كلٌ بطريقته وفي الوجهة التي أرادها، وكانت الوجهة التي أعيته مبكرا، هي تلك التي تطلعت إلى “ربيع” للتغيير يبدأ من القطر العربي الذي يعيش فيه “الأردن بالضفتين، آنذاك”.

تفتحت عيناه على رمزيات ذلك البلد ورموزه وحكايا “النظام” فيه وتطلع إلى فضاء آخر. مرت مياه كثيرة في مجرى حياة الشكعة. هو الأنموذج المختلف، الذي يبدأ إبناً لعائلة ميسورة، يختار مسار الإيثار والتحدي، على النقيض ممن كان خيارهم الانخراط في الموالاة والتوافر عليها، طلبا للأدوار وسعيا إلى رغد العيش.

فكر انقلابي حتى على نفسه

"حزب البعث" الذي يؤمن الشكعة بأفكاره، يختطفه العسكريون، وطارد رصاص سلطاتهم، عددا من المدنيين المؤسسين، فنجا منهم من نجا وكان الشكعة نفسه من بين الناجين
"حزب البعث" الذي يؤمن الشكعة بأفكاره، يختطفه العسكريون، وطارد رصاص سلطاتهم، عددا من المدنيين المؤسسين، فنجا منهم من نجا وكان الشكعة نفسه من بين الناجين

يعدّ الشكعة واحدا من الفلسطينيين الذين انتقلت إليهم، في شبابهم اليافع، نسائم الأيديولوجيا القومية، برومانسيتها التي تبث في قلوب الشباب أحلاماً وردية، كانوا يرون تحققها قريباً، بشكلها الأقصى الذي يمثله الوطن العربي الواحد، الذي يقوم بزوال الحدود الفاصلة “الزائفة والمصطنعة” بين أقطاره، بلا عناء كبير، وإنما بمجرد “يقظة الوجدان العربي”، حسب ما رأى الحزب الذي انتمى إليه، وأكد عليه في الدواوين المنشورة، شاعر الحزب منذ خمسينات سوريا، سليمان العيسى.

على هذه الطريق، استهل الشكعة رحلة حياته، واستقر على “حزب البعث” قبل أن يتخطفه العسكريون، وقبل أن يطارد رصاص سلطاتهم، عددا من المدنيين المؤسسين، فينجو منهم من ينجو إذا استظل بنظام لا يطابق شكل النظام الشاسع والسعيد، الذي يحلم به هو والجماهير الحائرة. فالتبشير بالأيديولوجيات يتولاه الطيبون الناعمون، أما سلطات هذه الأيديولوجيات، عندما تقوم، فلا ترجى منها طيبة ولا نعومة، وهي نفسها التي تجعل الموالين المؤمنين بالفكرة وبالنصوص، في طليعة الضحايا، ما لم يلتزموا مبدأ السمع والطاعة.

لأن التغيير الأول المرتجى، كان يتعلق بالأردن، بحكم وجود نابلس، شقيقة دمشق الصغرى، معمارا وأسواقا، داخل جغرافيا المملكة الأردنية؛ فقد كانت المعركة الأولى مع النظام، باعتبار أن الشكعة، من ناشطي الرديف المدني لمحاولة قلب نظام الحكم في العام 1957 لصالح حركة “القوميين العرب” ومعها “حزب البعث”.

وكانت تلك، بداية الطريق الصعب، الذي يزيده عسراً خطأ الحسابات التي أغفلت معطيات النفوذ المتأسس لقوى الاستعمار القديم، ونفوذ قوى اجتماعية محافظة، وجدت في النظام أسباب رخائها وحمايتها.

انتقل الشكعة إلى سوريا، مهد الحلم “البعثي”، مطمئناً إلى وجاهة المسعى وجدارة الحزب. وما هي إلا أشهر، حتى يخطو “البعث” خطوته الوحدوية الأولى، فتولد دولة الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958. مرة أخرى، يكون للتعجل واختزال متطلبات التهيئة وضعف الشروط الدستورية الضامنة لحُسن سير عملية البناء الكياني لبلد يضم قُطرين؛ تداعياتها التي تفاقمت وأدت إلى الانفصال في سبتمبر العام 1961.

 لم يشفع للمتعجلين أن الوحدة نفسها كانت خيارا إجباريا، لأن سوريا كانت فعلا مهددة باجتياح عسكري من شرقها وشمالها، في إطار خطة وشيكة التنفيذ للسيطرة على سوريا وإدخالها في “حلف بغداد” الذي تقوده الولايات المتحدة. وهنا يصطدم الحلم الرومانسي لدى الشكعة، بسلطة الانفصال، فتلدغه عقرب الحزب الذي أدار عمليتي الوحدة والانقلاب عليها. ومع كل اصطدام يكون الشقاء وتكون المطاردة ويكون السجن.

ظل الرجل، لخمس سنوات بعدها، ثابتاً على ولائه وانتمائه إلى حزبه، لعل الأمور تستقيم في السياق الذي بَشّر به الطيبون الأولون. لكنه فوجيء بشرخ جديد، أو بانكسار آخر للحلم، إذ انشق الحزب على نفسه أفقياً في العام 1966. فلم يجد لنفسه ملاذاً، سوى ما نصحت به قصيدة رفيقه الشاعر سليمان العيسى “من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر. لبيك عبد الناصر”. يمم وجهة شطر مصر، ظل فيها حتى شمله عفو ملكي أردني، أتاح له العودة إلى نابلس.

يداري سيئو الحظ أنفسهم من هطول المطر، فيقعون تحت المزراب. فما إن حط الشكعة عصا الترحال وعاد إلى منزله في مدينته؛ حتى وقعت المدينة وسائر الضفة تحت الاحتلال الإسرائيلي. عندئذ بدأت مرحلة جديدة ومعركة من نوع مختلف، يستأنس فيها الشكعة ببعض أفكار الحلم القديم، تطلعاً إلى بناء حلم جديد، فيتوسل لنفسه ولشعبه، وطناً / قُطرا له حدود، بدل وطن كبير ينشأ بزوال الحدود.

رسالة موشي دايان

سنوات الانزواء، وقد تجاوزت ربع القرن، لم تكن كافية لأن ينسى الفلسطينيون تجربة الشكعة، وخلالها قاطعته السلطة الفلسطينية وقاطعها، لكنه انفتح على خيارات لا تقل ضياعاً عنها
سنوات الانزواء، وقد تجاوزت ربع القرن، لم تكن كافية لأن ينسى الفلسطينيون تجربة الشكعة، وخلالها قاطعته السلطة الفلسطينية وقاطعها، لكنه انفتح على خيارات لا تقل ضياعاً عنها

سرعان ما ينفتح المشهد، على معارك أخرى. ففي المدينة، كان موشي دايان، وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، يتطفل على منزل الشاعرة الفلسطينية إبنة مدينة نابلس فدوى طوقان، ويحاول تأسيس حوار معها، كأنما يقصد مناقشة حيثيات الحُلم الذي صدعته الحرب. يريد من فدوى أن تحمل معها إلى عبدالناصر رسالة شفوية. ولكي تتخلص الشاعرة من ضغوط الجنرال، سافرت إلى مصر وعلى لسانها الرسالة المشروحة وفق ثقافة الشاعرة الفلسطينية. يكون الشكعة، على إطلاع بالفحوى كله، ويقرأه بثقافته، ويقرر ما ليس منه بُد؛ المقاومة بالكتلة الشعبية لترميم جزء من الحُلم الكبير.

كانت بدايات مرحلة، يستهلها الحالم من عند مآلات أوضاع وعِبر، ومن خواتيم أيديولوجيا. انطوى الحلم الأول، بـ”ربيع” عربي شاسع، وانفتح الباب للحلم في وطن يرفع عن كاهله رجس الاحتلال. فعلى هذه الطريق، كانت الخطى.

أعلى صوته لرفع معنويات الناس، ولرفع منسوب الوعي الوطني الفلسطيني الجديد، من خارج مناخات الارتباط العضوي بالدولة الأردنية. كان الناس يستأنسون بخطابة السياسي وشجاعته ووطنيته العالية، التي تشد من أزر الناس أمام جبروت الاحتلال. فالرجل كان يعرف طبيعة الصهيونية، ولم يتزحزح عن قناعاته. انتخبه الشعب رئيساً لبلدية نابلس، وكان لفوزه بموقع البلدية في العام 1976، طعم التفويض السياسي والجدارة في الزعامة.

أصدر المحتلون قراراً بطرده من وطنه، والتف حوله الشعب وساندته المحامية فيليسيا لانغر ونجحت في وقف تنفيذ الطرد، فدُست له القنبلة في منتصف العام 1980 لطرده من الدنيا، فنجا إلا من ساقيه. لكن صوته من داخل بيته ظل يلعلع؛ ليقف الشعب صفاً واحداً خلف منظمة التحرير الفلسطينية، ولا فائدة يمكن أن تُرجى من التفاوض مع إسرائيل ولا ولن يجلب التطبيع معها سوى الخسارة على كل صعيد. وكان متوقعاً أن تلجأ إسرائيل إلى عزله من منصب رئيس البلدية.

حتى حلمه في أن تصل منظمة التحرير بالفلسطينيين إلى الاستقلال الوطني، تحطم مع اتفاق أوسلو التي عارضها بشدة ولم ير أنها تحمل تباشير جلاء الاحتلال والاستقلال الوطني.

تقدمّ به العمر، وابتعد عن منصات الكلام، لا يُسمع منه ولا يُسمع عنه، وعاش قرابة ربع القرن الأخير من حياته، خارج دائرة الضوء حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في بيته، عن 89 عاما. لم تكن سنوات الانزواء، كافية لأن ينسى الفلسطينيون تجربته، ومع جلال الموت، أجزلوا التحية والثناء، لتاريخه ونضالاته وجراحاته. فقد كان الرجل صاحب موقف مبدئي، قاطعته بسببه السلطة الفلسطينية وقاطعها. هي لرزيّة أحوالها، وهو لشموخ نفسه ولرسوخ قناعاته.

وكانت من أواخر وأهم الكلمات التي وجهها الشكعة إلى العالم رسالته إلى الجامعة العربية قبل سنوات والتي قال فيها “إذا كان لدعاوى التبعية من يدافع عنها في المرحلة الماضية في ظل القطبية الواحدة، فآن لهم أن يستيقظوا بأن هذه المرحلة قد ولّت وإلى غير رجعة. وآن لنا أن نتعامل مع العالم بمتغيراته الواضحة وضوح الشمس، والوقوف أمام مراجعة نقدية لهذه المرحلة”.

8