بريق الهجرة يغري أسرا جزائرية بالمغامرة بأبنائها في الحرقة

مختصون يلقون مسؤولية تفاقم الهجرة غير الشرعية على عاتق الأسرة، والعائلات تقلد بعضها في الهجرة لاعتبارات مادية.
السبت 2019/02/16
عائلات تشجع أبناءها على ركوب مغامرة غيرمحسوبة العواقب

تؤيد بعض العائلات أبناءها عندما يفكرون في الهجرة من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية، وتدعم في بعض الحالات الابن في خوض مغامرة الهجرة غير الشرعية التي قد تودي بحياته وقد تجمع له المال للقيام بالرحلة. ويسود إجماع لدى المهتمين والمختصين الاجتماعيين في الجزائر، حول عدم إغفال دور الأسرة في تنامي ظاهرة الحرقة، والذي يتجسد في نزوع غير مبرر لحب التفوق بشتى الوسائل، حتى ولو كان بركوب قوارب الموت، من أجل تحقيق طموحات مادية واجتماعية.

الجزائر - وجد ماليك نفسه مضطرا إلى البحث عن وسيلة ترجعه إلى بلده وإلى حضن أسرته، في إحدى بلدات محافظة غليزان (300 كلم غربي العاصمة)، بعدما عجز عن مواجهة الظروف المأساوية في الضواحي الباريسية، لكن العائلة كانت ترفض فكرة العودة بالمطلق، لأنها لم تهضم فشل ابنها في مشروع الهجرة وفي مغريات العملة الصعبة التي يشتهر بها المهاجرون في المنطقة.

ولأن الوضع الاجتماعي والطموحات المادية لماليك ولعائلته، كانا يفوقان بكثير العوائد التي كان يحققها في عمله في العاصمة، فقد فكر جديا في فكرة الهجرة إلى فرنسا، بوثائق رسمية (تأشيرة وبطاقة سفر)، على أن يمكث هناك بعد انقضاء المهلة الرسمية، وهو ما كان له، فقد ترك عمله وسافر إلى باريس، ليصطدم بعد أسابيع وأشهر بالواقع المؤلم الذي تعيشه الجالية الحراقة.

ورغم أنه شاب تدرب على العيش الضنك منذ أيام الطفولة، إلا أن معاناة القيتوهات والمبيت تحت الجسور والبرد الشديد والجوع، كانت أقوى من ماليك، فقرر البحث عن العودة إلى حضن العائلة، لأنه لم يعد بمقدوره المزيد من المقاومة، إلا أنه اصطدم برفض العائلة، لأنها لا تستطيع تحمل كلام الناس عن فشل مشروع هجرة الشاب، وعن الخيبة في تحقيق نهضة مادية واجتماعية للعائلة.

ويسود اعتقاد لدى الكثير من الأسر الجزائرية، بأن الهجرة هي حل للأوضاع المادية والاجتماعية المتدهورة، فقد كانت بندقية الصيد وسيارة 404 أو 504، هي رمز التفوق والرفاهية الاجتماعية، والآن يمثل العقار وتشييد الفلل الضخمة رمزين لعوائد العملة الصعبة للمهاجرين.

العائلة الكبيرة تريد أن ترى عوائد الهجرة مجسدة في تحول اجتماعي أو هدايا يتظاهر بها أفرادها في المناسبات الاجتماعية

ولأن سيرورة الهجرة لم تعد كما كانت في سنوات خلت، فإن الحرقة باتت الملاذ الأخير للكثير من العائلات التي تشجع أبناءها على ركوب المغامرة لأجل تحقيق الحلم ومنافسة الآخرين، دون إيلاء الأهمية لتبعات الخطوة، إلا بعد الاصطدام بخبر الفقدان أو الغرق.

ووضع مختصون منحازون إلى مقاربة الحكومة في تحليل ومعالجة ظاهرة الهجرة السرية، المسؤولية الأولى على عاتق الأسرة، باعتبارها المحيط الأول للشباب الحراق، وأي تغافل عن أبنائها أو تشجيعهم على المغامرة لأي اعتبار، سيسمح للعوامل الأخرى بتغذية الظاهرة وصناعة الأوهام والمفاهيم الخاطئة.

وتقول الخبيرة الاجتماعية زهرة فاسي، إن “تنامي ظاهرة الهجرة السرية، يعود إلى توافر مجموعة من العوامل وجدت في تساهل الأسر في حماية أبنائها من العصابات المختصة، وفي بعض الأوهام أرضية خصبة للظاهرة”.

وتحمل الخبيرة المسؤولية بالدرجة الأولى للعائلات المنخرطة في اعتقادات خاطئة وأوهام جوفاء، من أجل بناء المجد المادي والاجتماعي، فهي ترى أن المقامرة بأحد أو بعض الأبناء في المغامرة، يفتح لهم الأبواب التي تكون قد أغلقت أمامهم في بلدهم.

وتحت ضغط رغبة العائلة واصل ماليك المغامرة في باريس، ولولا فضل المساعدات وتضامن رفاق الحرقة لوقع في المكروه، بسبب انعكاس وضعه الاجتماعي على صحته، إلى أن توصل إلى إبرام صفقة زواج أبيض مكنه من تسوية وضعيته الإدارية.

وهو الآن مطالب بتلبية متطلبات الحياة الباريسية لأسرته الصغيرة، ومرغم على التكفل بانشغالات العائلة الكبيرة في غليزان، لأنها تريد أن ترى عوائد الهجرة مجسدة في تحول اجتماعي أو هدايا يتظاهر بها أشقاؤه وشقيقاته في المناسبات والولائم الاجتماعية، فالاعتقاد السائد هناك وفي الكثير من بلدات الجزائر، هو أن الهجرة رمز الرفاهية والعيش الرغيد، ولا مانع لذلك حتى ولو كانت على ظهر قارب من خشب قد يغرق بركابه في منتصف الطريق.

رحلة نحو المجهول
رحلة نحو المجهول

ومع تعدد الأسباب والقراءات للهجرة السرية، يبقى دور الأسرة أحد العوامل المساهمة في تنامي الظاهرة، فعدوى المحاكاة والتقليد تنتقل بين الأسر كما تنتقل الظواهر الاجتماعية الأخرى، وتوسعت لتشمل هجرة عائلات بكاملها في القوارب الخشبية، حيث تبرز صور وتسجيلات أسر بأطفالها الرضع وحتى نساء حاولن الركوب في مغامرة حلم المرور إلى الضفة الأخرى.

وتشتهر العديد من المناطق والمحافظات الجزائرية بالجذور التاريخية للهجرة على مر العقود، كما هو الشأن بالنسبة للشلف في غرب البلاد، وسطيف وباتنة في الشرق، حيث تقلد العائلات بعضها بعضا في الهجرة لاعتبارات مادية واجتماعية، إلا أن الظاهرة أخذت منحى آخر، وأصبحت الولايات الساحلية هي الأكثر هجرة، بسبب قرب أبنائها من أجواء وأسرار الهجرة السرية.

وتتحدث إحصائيات مختلفة في الجزائر، عن وجود أكثر من فرد من نفس العائلة في عدد من حالات الهجرة السرية، حيث عادة ما يعمل العنصر الأول على تمهيد الطريق لشقيق له أو قريب من العائلة، ولو أن الانطباع بصعوبة حياة المهاجر السري في المدن والعواصم الأوروبية مُسَلّم به، إلا أن الروابط الأسرية تبقى ملاذ هؤلاء في ديار الغربة للاحتماء من تقلبات الوضع الجديد.

ويرى مختصون أن المهاجرين يعملون على تكوين علاقات أسرية جديدة في ديار المهجر، والأمر لا يتعلق بالهجرة العادية فقط، فالرابط الاجتماعي والأسري يبقى حاضرا وقائما حتى في الهجرة السرية رغم المخاطر التي تنطوي عليها، وهو ما أفضى إلى تنامي المجموعات البشرية والعرقية وحتى الإثنية في ديار المهجر.

وتسري الكثير من تجارب الحراقة الجزائريين انطلاقا من تركيا، على العديد من حالات التسلسل الأسري، فالتجربة التي يكسبها العنصر الأول في خط سير يقطع عدة دول أوروبية قبل الوصول إلى دول الجنوب المتوسطي، يتم توارثها عبر مغامرين آخرين من نفس العائلة أو الحي وحتى المدينة، لاعتقاد راسخ بأن من عوامل النجاح في التجربة أن يكون لصاحبه سند بشري يعينه ويطمئن إليه.

21