بروح رياضية.. هل خسرنا المواجهة مع كورونا؟

لم يعد بوسع الدول الغنية أن تستأنف الإغلاقات ولا أن تدفع تكاليف التعويضات، حتى لكأن الذين عجزوا عن قبول الإغلاقات في الدول الفقيرة هم الذين فازت "نظريتهم" الاقتصادية في النهاية.
الأربعاء 2021/08/11
الجائحة غيرت وجه المجتمعات

في صيف العام 1871 رأى الشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو نفسه في “مركب سكران”، يطوف بالشواطئ والبحار على غير هدى. تتخبّط به الأنواء، كما تتخبط بمدركاته الصور والأماني، إلا أنه يغرق في النهاية. قال المركب:

“في تلاطمِ الموجِ الغاضبِ

الشتاء الماضي، أكثرُ صمتاً من أدمغةِ الأطفال

ركضتُ، إن أشباه الجزرِ العائمةِ

لم تشهد قط، ما هو أكثر انتصارا من فوضاي

باركتْ العاصفةُ يقظاتي البحرية

وبأكثرِ خفةٍ من فلّينة، رقصتُ على الأمواج

التي تُدعى مُدحرِجات الضحايا، الأزلية”.

مَنْ كان يتخيّل، ساعة كنا في صراع الموجة الأولى من وباء كورونا، أننا سنقع ضحية لموجة ثانية أشرس، ثم ثالثة أشرس منها؟ وهل ثمة من يمكنه أن يضمن أنه لن تكون هناك رابعة وخامسة أشدّ وحشية؟

العلماء يعرفون، على أي حال، أن الفيروسات تتحوّر، وإنه كلما أصيب بها عدد أكبر من الناس، كلما أتيح لها أن تتكيف أكثر مع أنظمة المناعة المختلفة، فتتفوق عليها.

العلماء يعرفون أيضا أن الذين يصابون بمتحوّر، يمكن أن يصابوا بآخر. أما اللقاحات، فهي وإن كانت توفر مقدارا عاليا من المناعة ضد متحور، لأنها أنشئت على أساسه، فإن هذا المقدار يتضاءل أمام متحورات أخرى، حتى يتم التوصل إلى لقاحات جديدة.

المختبرات تعمل بأقصى طاقتها، بحثا عن سبيل للحاق. ولكن طبيعة عملها نفسه تجعلها تقف خطوة واحدة على الأقل خلف كل متحور.

نحن في سباق إذن. وهو سباق شرس بين فايروس أسلم قياده للأمواج، وبين مختبرات تتصارع مع المعرفة، وبين حياة الملايين من البشر.

قطاع كبير من هؤلاء البشر في الدول الغنية، يشعر بأنه في مأمن، بما توفّر له من لقاحات. ولكن الحال مختلف تماما بالنسبة إلى الأمم الفقيرة. البشر هناك يستسلمون للحقائق، ويتعاملون معها كأقدار. فإذا نظرت إلى أثر المتحورات حتى على الذين تلقوا اللقاحات، فلسوف تعرف أن الجميع في مركب واحد، وأن الأقدار لا يزال بوسعها أن تكون هي ذاتها الأقدار.

لن يفنى البشر في النهاية. معدلات الوفيات لا تزال محدودة للغاية. ولكن هذا الوباء يفرض شيئين على الأقل. الأول، هو أنه يترك أعدادا ضخمة ممن اعتلّت صحتهم. والثاني، هو أنه يفرض أنماطَ حياة جديدة، ويُعاقب من يتجاسر عليها.

التجاسر على قواعد الوقاية هو ما تُعاقب عليه الآن عدة ولايات أميركية سارعت إلى رمي الكمامات، بينما كان الوباء يدور فيها دورته الثالثة. والمستشفيات عادت لتغص بالمرضى الذين يحتاجون إلى عناية مركزة.

الصورة
الجائحة تعاقب من يتجاسر عليها

اقتصاديا لم يعد بوسع الدول الغنية أن تستأنف الإغلاقات، ولا أن تدفع تكاليف التعويضات عنها. حتى لكأن الذين عجزوا عن قبول الإغلاقات في الدول الفقيرة هم الذين فازت “نظريتهم” الاقتصادية في النهاية. تلك النظرية كانت تقول “الموت جوعا أسوأ من الموت بالوباء”.

الذين استنزفوا قدراتهم على طباعة النقود يقولون الآن الشيء نفسه. بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني رفع القيود وبلاده في أعلى معدلات الإصابات بالمتحوّر الثالث “دلتا”، ولسان حاله يقول: ما عاد في قوس الصبر منزع.

المختبرات تعمل بأقصى طاقتها، بحثا عن سبيل للحاق. ولكن طبيعة عملها نفسه تجعلها تقف خطوة واحدة على الأقل خلف كل متحور. من ناحية، لأنها لا تستطيع أن تتنبأ بمقوماته قبل أن تراه. ومن ناحية أخرى، لأن تقنياتها الوقائية لا تزال أقل ذكاء وسرعة من تقنيات التحوّر.

لقد كان لقاحا فايزر وموديرنا قفزة حقيقية في الفراغ لاعتمادهما على تقنية ثورية. ولكنهما أصابا الهدف على نحو لم يحققه كل تاريخ اللقاحات، من كل الأوبئة الأخرى. حتى أصبح بوسع هذه التقنية أن تقدم وعدا يكفل القضاء على حزمة واسعة من تلك الأوبئة. ولو تحقق ذلك بالفعل، فإن ذلك يمكنه أن يعلن الفوز بالسباق، إنما بعد أكثر من قرنين منذ أن تم اكتشاف أول لقاح للجدري في العام 1796.

الأغنياء بحثوا عن سبيل لنجاتهم، ففشلوا. هم تمسكوا بالمعايير الاجتماعية لعالم ما قبل العام 2019 وفشلوا أيضا.

الأوبئة الفايروسية ليست على أي حال كتلك الأوبئة البكتيرية. إنها أسرع تطورا وأكثر فتكا وأسهل تفشيا. وما إن بلغت حدود ما نحن فيه، حيث أصبح التنفس هو الوسيط، حتى صارت الكرة الأرضية كلها بؤرة وباء.

الدرس من هذا كله، هو أننا:

  • نعيش في عالم واحد. سقط فيه الغني في المربع نفسه الذي سقط فيه الفقير.
  • عالم ما قبل العام 2019 لن يعود. وكلما حاولنا التجاسر على قواعد الحياة الجديدة، كلما تلقينا المزيد من الضربات.
  • معايير حياتية جديدة، تتوافق مع متطلبات الوقاية، أصبحت شرطا لازما. العمل عن بعد، والدراسة عن بعد، وإجراءات الوقاية الصارمة، وغير ذلك، تشترط نمطا جديدا للحياة المدنية. شيء يشبه “العودة” إلى أفلام الخيال العلمي التي تقوم على المزيد من العزلة الوقائية بين البشر.
  • الأوبئة الفايروسية لا تموت إلا بأن يتوقف البشر عن توفير الوسائط لتفشيها.
  • سوف نحتاج للعديد من السنوات قبل أن تتوفر تقنيات ثورية تكفل مكافحة كل التحوّرات.
  • العلم، على عبقريته وعظمة إنجازاته، لا يزال أبطأ مما نحتاج.
  • الحياة لن تتوقف على وباء. أكثر من نصف البشر سوف ينعمون بالنجاة بمحض وسائلهم الدفاعية الخالصة.
  • وبروح رياضية، يحسن أن نعترف أننا خسرنا السباق.

ولا حاجة إلى أن تلقي اللوم على أحد. الأغنياء بحثوا عن سبيل لنجاتهم، ففشلوا. هم تمسكوا بالمعايير الاجتماعية لعالم ما قبل العام 2019 ففشلوا أيضا. طبعوا تريليونات الدولارات، فضاعت. أما الفقراء فما كان بأيديهم أن يفعلوا أكثر مما فعلوه. استسلموا للأقدار، فبدتْ، ظاهريا على الأقل، وكأنها أكثر رأفة بهم.

ولئن رأينا الكثير من فراشات أمل هشة، “وأقاصٍ تتداعي صوب الهاوية كمثل الشلالات”، حيث “يلتهمُ البقُّ أفاعيٍَ عملاقة، لتسقط من الأشجار الملتوية، تكتنفها عطورٌ سوداء”، فلقد رأينا في الواقع، أن الكل في المركب نفسه. إنه ذاته “المركب السكران”؛ مركبٌ لم يعرف شيئا أكثر انتصارا من الفوضى. “المركب الذي قذف به الإعصار في أثير لا طائر فيه”. وما نحن إلا “غرقى ينزلون القهقرى ليناموا”.

8