"باربي" فيلم ممنوع.. يا لسعادة منتجيه

رغم ذوبان الحدود وتقارب العالم وثقافاته وتحوله إلى مجال متقارب ومترابط، فإن بعض الأصوات هنا وهناك ما زالت تؤمن بالقطيعة وتدعو إلى أفكار نمطية ورجعية، تبدأ في فرضها على الفن والثقافة، إذ هما القطاعان الأكثر تأثيرا. ولعل هذه الأصوات نجحت في منع فيلم أو كتاب أو عمل فني لكن إلى متى يمكنها فرض ذلك.
النجاح الذي حققه فيلم “باربي” تجاوز كل التوقعات، إذ تخطّت عائداته المليار دولار، لكن هذا الانتشار الواسع رافقه كذلك جدل كبير حول مضمون الفيلم.
وتمكّن فيلم المخرجة غريتا غيرويغ من دخول التاريخ، ليس فقط لعائداته العالمية، بل لأنه كذلك كان أسرع عمل سينمائي يحقق ذلك في تاريخ “وارنر براذرز”، وفق مسؤولين في المجموعة. لكن ذلك لم يخف الاحتجاجات المتصاعدة ضده، والتي وصلت إلى حد منع عرضه.
لا يمكن منع الفن
رغم النجاح العالمي الكبير فقد تعرض فيلم “باربي” للحظر في العديد من الدول الإسلامية مثل باكستان، والعربية مثل لبنان والكويت ومؤخرا الجزائر التي منعته دون تبريرات بعد أسابيع من عرضه في الصالات، بينما يتواصل عرضه في بلدان عربية أخرى بينها السعودية والإمارات حيث يشهد إقبالاً كبيرا.
كما هو الحال في كل منع لعمل فني كانت الحجة أخلاقية، إذ حظرت الكويت الفيلم لأنه “يخدش الآداب العامة”، بينما تحركت وزارة الثقافة في لبنان، الذي يعتبر من أكثر البلدان العربية تحررا، لمنع العمل لأنه “يخالف بمحتواه الآداب والقيم لاسيما قيمة الأسرة ويخالف المبادئ الوجدانية والأخلاقية والإيمانية التي تشكل الحصن الحصين للمجتمع اللبناني”، ولأنه يروّج للمثلية الجنسية.
بداية، إن منع عمل فني في زمن الإنترنت غير ممكن إجرائيا، بل بالعكس يروج المنع للعمل أكثر فأكثر ليصبح بضاعة “سوق سوداء” ويروج بشكل أكبر في مجتمعات معاصرة تتغذى رغبتها الاستهلاكية المحمومة على الفضائح والشائعات.
لنعد إلى موضوع الفيلم الذي يجسد الدمية “باربي” التي تطرد من مدينتها لتنطلق في مغامرة في العالم الحقيقي، مغامرة رأى فيها الكثيرون خطابات نسوية مبالغا فيها وترويجا للعلاقات المثلية وتشويها لصورة الرجل والعلاقات الاجتماعية وتأسيسا لـ”الانحلال” الأخلاقي، وغيره من نقد تعرض له الفيلم بشكل كبير في شتى أنحاء العالم.
العمل الذي أعاد إحياء الدمية الأشهر عالميا، وأعاد نشر اللون الوردي بكثافة في مختلف المنتجات، كان له تأثير بالغ في الواقع رغم أنه غير واقعي، وهو ما يؤكد قدرة السينما على الانتشار ونشر الرسائل التي يريدها منتجوها، لكن المحاكمات الأخلاقية التي تعرض لها هنا وهناك، هي ما يدعو إلى وقفة تأمل.
العمل الفني مطروح بالضرورة للنقد، وإن كانت تقف وراء نجاح “باربي” ماكنة إنتاجية ضخمة وماكنة إعلامية كبيرة ساهمت في انتشاره الواسع، فإن تقييمه لا يجب أن يتجاوز النقد الفني، أما الحظر والمنع والملاحقة فهي أساليب بالية بعيدة كل البعد عن عالم اليوم المتحرر من كل الأطر.
المنع فعل سياسي تقف وراءه تيارات سياسية دينية رجعية، وهو فعل لا يتوقف عند فيلم “باربي” بالمناسبة بل يتجاوزه إلى لوحات وكتب وأغان (نذكر مثلا منع كتب محمود درويش في الكويت) وغيرها من أعمال فنية، يرى فيها الرقيب الإداري الذي يمثل السلطة السياسية أو إحدى وجوهها المتصلبة في الماضي إخلالا بالآداب، ويقر منع العمل بجهل أو رغبة في التحكم في الأذواق والأفكار والتوجهات، وهو ما يبدو مستحيلا اليوم.
الفن متحرر من الأخلاق الدينية المتوارثة وتأسيس لأخلاق إنسانية متجددة، هكذا يمكن فهمه على امتداد تاريخه، منذ قرون والمبدعون والمفكرون يتعرضون إلى المنع والملاحقة حتى، ألم تُحرق كتب ابن رشد ويقتل ابن المقفع بشكل بشع، من فعل ذلك، إنها السلطة متحالفة مع رجال الدين الذين حولوه إلى ملكيّة خاصة. والنتيجة ما نعرفه جميعنا من تأخر حضاري.
نعم، لا مجال للمقارنة بين عمل سينمائي تجاري ترفيهي وأعمال أدبية وفكرية مؤسسة في الحضارة البشرية، لكن المنع هو المنع.
المواجهة بالنقد
حظر الفن غير ممكن اليوم في عالم الإنترنت ووسائل التواصل والمنصات الرقمية، بل بات مضحكا وطريقة تؤدي إلى عكس النتائج التي يرجوها مرتكبو هذه الأفعال “القمعيّة”.
الحظر والمنع يؤديان بالضرورة إلى اشتهار العمل، حتى أن هناك كتابا ومبدعين يطلقون إشاعات بمنع أعمالهم لتروج أكثر، وهي خطة ناجحة، ولنا مثلا ما حدث في معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الأخيرة من رواج كبير لأحد الكتب بعد ادعاء ناشره أنه قد مُنع. إذن لماذا المنع؟
لا يمكننا أن ننكر ترويج بعض الأعمال السينمائية وحتى الأدبية اليوم لظواهر المثلية ونشر أفكار نسوية غاية في التطرف، أو الترويج لأساليب حياة معاصرة غير حقيقية وتخلق خللا نفسيا لمشاهديها، وأعمال عنيفة ومبتذلة تمثل خطرا على الأطفال، وكثيرة هي الرسائل غير المرغوب فيها مما تدعو إليه الأعمال السينمائية. كل فيلم في النهاية يحمل أفكار أصحابه من كاتبه إلى مخرجه إلى منتجيه، لكن هذه الأفكار يجب أن تواجه بالأفكار لا غير.
من الممكن كتابة نقد في فيلم “باربي” أو غيره من الأعمال، نقد فني وفكري أساسا، أما النقد الأخلاقي فيجب أن يأخذ الأخلاق بالمفهوم الإنساني لا الديني، فالفن في النهاية رسالة أخلاقية سامية، لا يمكن أن تكون مروجا للتخريب أو الصراع والعنف والاقتتال والتطرف، أو تصبح شيئا آخر غير الفن.
الفن إنساني بالضرورة وما هو أخلاقي في هذا الدين أو تلك الجماعة العرقية قد لا يكون كذلك في غيرها. إنه درس الأخلاق الأول: لا توجد أخلاق واحدة.
وظيفة الفن الأرقى هي الإنسان، وتوفير أرض تعايش له. وبالتالي فهو يقف على حياد من كل الأخلاق، بينما يمرر رسالة أصحابه. هل وفر فيلم “باربي” هذه الأرض؟ ربما يجيب بعضهم بنعم مقدّمين عالمه الوردي والكوميدي الناعم حجة لهم، وقد يتحجج آخرون بنفيهم ذلك بالحوارات والأحداث التي تنافي عادات بعض المجتمعات المحافظة، مثل المجتمعات العربية.
ويبقى أن نشير إلى أن المنع السياسي ليس حكرا على التيارات السياسية الدينية الرجعية في البلدان العربية، بل طال حتى بلدانا أوروبية راسخة في الديمقراطية بعد أن تسيدتها شعبويات مثيرة للقلق، ولنا في ما يتعرض له الفنانون والكتاب الروس الأحياء منهم والأموات من منع مجنون، ما يضع الفن في طليعة ألاعيب السياسة.