باحثون عمانيون يحفرون في سيرة الشاعر محمد الحارثي وأدبه

شاعر يحفز عبر أعماله على العصف الفكري والثقافي.
الخميس 2024/02/22
محمد الحارثي منبر ثقافي يثير الجدل

يبقى الشاعر العُماني محمد الحارثي (1962-2018) من أبرز الأسماء المؤثرة في الأدب العماني، لا بوصفه شاعرا فحسب بل وأيضا محققا لأعمال شعرية هامة، علاوة على أفكاره التي تحرك سواكن الثقافة العمانية. واحتفاء بالشاعر الراحل قدم عدد من الباحثين والأكاديميين كتابا جديدا عن أدبه وحياته.

في كتابهما “محمد الحارثي.. حياته وأدبه”، وثّق لنا الأكاديميان علي بن حمد الفارسي ومحمد سيد أحمد متولي سيرة الشاعر العُماني الراحل محمد الحارثي، وأهم محطات مسيرته في عالم الأدب والشعر، وسجلا لنا حميمياته ومراثيه وحكاياته العالقة التي لم يسبق أن تمت روايتها من قبل، والكثير من عوالم الراحل الإبداعية.

الكتاب هو حصيلة ما شهده الملتقى الأدبي الأول لقسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الشرقية، والذي جرى تخصيص مختلف فعالياته حول حياة وأدب محمد الحارثي، من دراسات ونقاشات تناولت شخصيته ونتاجه الإبداعي، وإضاءات من حياته وعلاقاته مع أصدقائه، ومناقشات لأفكاره ومواقفه من الحياة والسياسة والدين، بجانب المقاربات النقدية التي تناولت نتاجه الأدبي في الشعر والسرد وجهوده في مجال التحقيق.

احتوى الكتاب على عناوين عدة بينها: محمد الحارثي في ذاكرة أصدقائه، وساحر اللسان والقلم، والحارثي وآثاره الشعرية، وقراءة في رؤى النقد ومعالم التحقيق، وعتبات النص في قصائد محمد الحارثي، وغير ذلك من العناوين. وقد جاء ذلك الملتقى وهذا الكتاب في إطار إيمان قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الشرقية بأهمية إيلاء العناية الجيدة للنتاج العماني الأدبي واللغوي والثقافي وأهمية البحث في سيرة الشخصيات العمانية التي أسهمت في إثراء موسوعة الأدب العماني إبداعاً ودراسة ونقداً.

ونطالع على صفحات الكتاب نص السيرة الذاتية للشاعر محمد الحارثي، وهو محمد بن أحمد بن عبدالله الحارثي، ولد عام 1962 شمال الشرقية، ثم حصل على بكالوريوس الجيولوجيا وعلوم البحار من جامعة قطر. وقد توفي في العقد السادس من عمره، مخلفاً وراءه إرثا أدبيا أسهم به في تشكيل خارطة الأدب العماني.

حياة الترحال

◙ الكتاب يضم دراسات ونقاشات تناولت شخصية الشاعر ونتاجه الإبداعي وإضاءات من حياته وعلاقاته ومناقشات لأفكاره ومواقفه
◙ الكتاب يضم دراسات ونقاشات تناولت شخصية الشاعر ونتاجه الإبداعي وإضاءات من حياته وعلاقاته ومناقشات لأفكاره ومواقفه

وقد تمثل ذلك الإرث في دواوينه الشعرية التي من بينها: “عيون طوال النهار” 1992، و”كل ليلة وضحاها” 1994، و”أبعد من زنجبار” 1997، و”عودة للكتابة بقلم رصاص” 2013. كما حقق الحارثي الآثار الشعرية للشاعر العماني الكبير أبي مسلم البهلاني عام 2010. أما آخر أعماله الشعرية فكان ديوان “الناقة العمياء” 2018، الذي صدر قبل شهور من رحيله، وكان مشحونا بتجربته مع الألم والمرض الذي عانى منه خلال السنوات الأخيرة من حياته.

وبحسب الكتاب، فقد عاش الحارثي حياة حافلة بالسفر والترحال، وتنقل بين الكثير من بلدان العالم، وسجل رحلاته في كتاب “عين وجناح” 2008، وغير ذلك من المؤلفات. وحصل الحارثي على جائزة ابن بطوطة في أدب الرحلة في دورتها الأولى عام 2003، وجائزة الإنجاز الثقافي البارز في سلطنة عمان عام 2014. كما صدر عن تجربته الأدبية كتاب بعنوان “حياتي قصيدة وددت لو أكتبها”، يضم حوارًا مطولًا أجراه معه الكاتب سعيد الهاشمي، وتناول فيه تجربته الشعرية والإنسانية.

وخلال فترة إقامته بقطر والدراسة فيها بدأ ينشر هناك في مجلة “الدوحة” الثقافية التي كان رئيس تحريرها آنذاك الكاتب رجاء النقاش، الذي ربطته به صداقة قوية، كما نشر في الملحق الثقافي أيضا لجريدة “الراية”، التي كان يرأس القسم الثقافي فيها حسن توفيق ونشر الكثير من القصائد والمقالات والدراسات في الملحق الثقافي بجريدة “عمان” ابتداء من عام 1988، حتى أن وجوده في هذا الملحق كان له أثر فاعل في استقطاب القراء والكتاب الذين كانوا يترقبون نشر كتاباته ومشاركاته.

ومن بين ما تضمنه كتاب “محمد الحارثي.. حياته وأدبه” مشاركة مقدمة من شقيقته الكاتبة والروائية والمترجمة أزهار أحمد الحارثي، وقد حملت عنوان “ساحر اللسان والقلم.. حكاية من حياة محمد الحارثي وأدبه”.

وننقل هنا قولها عن شقيقها “إن المرء ليحار في وصف ما يكتبه محمد الحارثي وبخاصة مؤلفاته الأخيرة هل هي شعر أم سرد؟!”. ثم تُكمل بأنها وجدت وصفا بارعا ذكره هو نفسه في ديوانه الأخير “الناقة العمياء”، مقتبسًا إياه من أبي حيان التوحيدي وهو قوله “أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم”. ورأت بأن هذا القول هو أصدق وصف لما يكتبه محمد الحارثي، وأنه من هنا يمكن وصف الحارثي بساحر القلم.

وفي الكتاب أيضاً مشاركة للشاعر والكاتب سماء عيسى حول “أثر الحميمية في شعر محمد الحارثي”، تُبين لنا صفحاتها أن الحميمية تحتل حيزاً واسعاً في تجربة الحارثي الشعرية، وبخاصة في قصيدة “قبيل بلوغ الحنف”، وفي غيرها من القصائد التي يظهر فيها أثر الحميمية.

ويدلنا الكتاب من خلال مشاركة الباحث والمثقف سعيد بن سلطان الهاشمي على أهم ما برع فيه محمد الحارثي وهو المثابرة في سبيل إنجاز نص أجمل، متحديًا ذاته كل مرة غير مدخر أي جهد من أجل تحقيق ذلك، حتى في مرضه، فقد عد مرضه وليمة مقدسة، وكرس فيه وقته للقراءة والكتابة، ولم ينشغل بمتاع الدنيا.

رؤى متفردة

◙ محمد الحارثي يظل منبرا ثقافيا تثير أفكاره وسيرته وشخصيته وإنتاجه المتنوع الجدل
◙ محمد الحارثي يظل منبرا ثقافيا تثير أفكاره وسيرته وشخصيته وإنتاجه المتنوع الجدل

بحسب الهاشمي عاش الحارثي حياة غرائبية، أكثر ما فيها إثارة للتأمل هي تلك العلاقة العكسية التي مزقته حتى الرمق الأخير، إذ كان كلما طوحت به انكسارات شديدة توهج فنيا وتآكل صحيا. والأشد غرابة في ذلك هو استغراقه وتصالحه مع كل ذلك بضحكاته المجلجلة، “حيث بدا الألم مناسبة لصقل التجربة، والجرحُ ضرورةً لضبط الإيقاع، وواجه الحارثي زمانه بفأس حطاب، وحين باغته الجسد بالاضمحلال المبكر لم يكن منه إلا أن رد عليه بغزارة الإنتاج، وكأن الخلود المتحقق لا يكون إلا بالمحو المحقق”.

وعلى صفحات كتاب “محمد الحارثي.. حياته وأدبه”، نقرأ مشاركة سليمان المعمري، العضو المؤسس للجمعية العمانية للكتاب والأدباء ورئيسها سابقا، والتي حدثنا فيها عن ذكرياته مع محمد الحارثي وبعض مواقفه وحكاياته معه.

وتحت عنوان “عتبات النص في قصائد محمد الحارثي”، للأكاديميين علي الفارسي وناصر الحسني، اللذين اتخذا عتبة العنوان في النص الشعري نموذجا لدراستهما المنشورة على

◙ محمد الحارثي عاش رحلة مليئة بالقلق والهموم استطاع أن يلخصها فكرا وشعرا ونصوصا في لغة أدبية مشوقة تعبر عن رؤيته المتفردة

صفحات هذا الكتاب، نجد قراءة أفقية مستقصية لعتبة العنوان في المدونة الشعرية للحارثي من حيث طبيعة البنية والتركيب. وقراءة عمودية تكشف أبعاد التعالق بين العنوان والنص الشعري ودلالته عليه، وذلك من خلال التطبيق على قصيدة واحدة هي قصيدة “شكسبير في مطار هيثرو”.

ومن الموضوعات التي تضمنها الكتاب أيضا مشاركة الأكاديمي ناصر الحسني المتخصص في الأدب العماني، والتي جاءت بعنوان “الفضاء الخارجي في ‘عين وجناح’ للكاتب والرحالة محمد الحارثي”، وقد تضمنت المشاركة قراءة ثرية وعميقة لهذا الكتاب الذي يعرض فيه الكاتب رحلاته في الجزر العذراء وزنجبار وتايلاند وفيتنام والأندلس والربع الخالي.

ونختتم -هنا- بتلك الشهادة عن الشاعر الراحل محمد الحارثي، والتي خصّنا بها الكاتب والمؤرخ الشيخ سعود الحارثي، حيث قال بأنه “إذا كان الشاعر والكاتب محمد الحارثي قد فارقنا بجسده فإن روحه وكتبه وأعماله ومشاركاته الثقافية المتميزة بقيت لترافق عشاق الأدب والشعر والمعرفة”. ورأى بأنه لا يمكن أن نصف محمد الحارثي بأنه فقط شاعر، أو رحّالة، أو أديب، أو روائي، أو كاتب مهموم بوطنه وأمته، بل هو كل ذلك، وأبدع في كل ذلك، فكان في محیطه حالة فريدة من نوعها.

وأكد الشيخ سعود الحارثي على أن محمد الحارثي سيظل منبراً ثقافياً تثير أفكاره وسيرته وشخصيته وإنتاجه المتنوع الجدل، وتحفز على العصف الفكري والثقافي، لكونه عاش رحلة مليئة بالقلق والمتناقضات والهموم استطاع أن يلخصها فكراً وشعراً ونصوصاً في لغة أدبية مشوقة تعبر عن قراءاته الواسعة ورؤيته المتفردة. وأشار إلى أن من يقرأ شرحه لنونية أبي مسلم البهلاني يدرك أنه أمام شخصية علمية غير عادية من خلال شرحه الذي يجعل القارئ يشعر وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا يصور الأحداث والمواقف والغايات التي تضمنتها نونية البهلاني.

12