"باتوالا" في مئوية تتويجها بجائزة غونكور

في الرابع عشر من ديسمبر القادم، يحتفل الوسط الأدبي الأفريقي بمئوية إسناد جائزة غونكور عام 1921 للكاتب الفرنسي الغوياني روني ماران عن روايته “باتوالا”، أول رواية ألفها كاتب أسود من قلب القارة السمراء حيث تدور أحداثها، ومثلت قطعا مع الأدب الكولونيالي الذي كان يكتبه البيض من جهة أبطالها ونظرتهم إلى واقعهم تحت الاستعمار. وقد عُدّت من بين الكتب التي ألهمت رواد الزنوجة وفي مقدّمتهم ليوبولد سيدار سنغور وفرانز فانون وإيمي سيزار، ولكن البيض قابلوها بالاستنكار واعتبروها فضيحة.
رواية روني ماران (1887-1960) “باتوالا” هي أول رواية يؤلفها كاتب أسود ناطق بلغة موليير وينتقد الامبريالية الكولونيالية الفرنسية، وهي صيحة مناهضة للاستعمار شبيهة بصيحة زولا “أنا أتهم”، قطعت مع تقاليد الرواية الكولونيالية التي يجامل فيها الكتاب البيض المستعمِرين المهيمِنين على الشعوب الأفريقية.
وقد مهّد ذلك النقد الذي صاغه روني ماران الأرضية لانتقادات أكثر عنفا وأشدّ إدانة لانحرافات المنظومة الكولونيالية الفرنسية، مثل “رحلة إلى الكونغو” لأندري جيد في العام 1927، و”أرض الأبنوس” لألبير لوندر عام 1929.

روني ماران ظل يتألم حتى وفاته من ربط اسمه بصفة "أول أسود يحوز جائزة غونكور"، وهو الذي يعتبر نفسه كاتبا وفقط
حملة شعواء
لما كانت أحداث “باتوالا” تدور في أفريقيا، وأبطالها أفارقة كما جاء في عنوانها الفرعي “رواية زنجية حقيقية”، فقد مثلت من جهة إرهاصات ظهور أدب أفريقي خالص، ومن جهة ثانية كانت على درجة من النضج الفني ما أهلها للفوز بأكبر جائزة أدبية فرنسية، ومن جهة ثالثة أثارت زوبعة في الأوساط الأدبية والثقافية، والسياسية بشكل خاص على المستويين الكولونيالي والحكومي، حتى أن سنغور وصفها ساعتها بالقنبلة.
ذلك أن صاحبها قوبل بحملة شعواء أدّت إلى استقالته من وظيفته، كما وصفته الحكومة الفرنسية بأنه كتاب “خطير” فصادرته ومنعت تداوله في أفريقيا؛ وأثار ضجة حتى في الولايات المتحدة بعد أن تُرجم إلى الإنجليزية في مطلع الثلاثينات، حيث أحدث رجة في بلد يمارس الميز العنصري، خصوصا بعد أن تصدّر الصفحة الأولى من صحيفة نيويورك تايمز.
وظل ماران يتألم حتى وفاته من ربط اسمه على الدوام بصفة “أول أسود يحوز جائزة غونكور”، ذلك أنها ما انفكت تضاف إليه كلما ذُكر اسمه؛ وها أن النقاد والمعلقين يعيدون استعمالها بمناسبة إصدار الرواية من جديد إحياء لذكرى ذلك التتويج، وكأن لون البشرة شرط من شروط التنافس، والحال أن ماران لا يرغب إلاّ أن يعامل كأي إنسان آخر، وهو ما عبّر عنه في كتابه السير ذاتي “رجل كسائر الناس” الذي وضعه عام 1947.
وكانت الحملة قد بدأت بالتعاليق العرقية السافرة، من ذلك مثلا أن صحيفة لوبوتي باريزيان صدّرت صفحتها الأولى بمانشيت “لأول مرة يلعب السود ويكسبون”، ثمّ نتأت شكوك في أن يكون كاتبها رجلا أسود، حيث اتهم ماران بالانتحال والسرقة الأدبية، دون دليل، ثمّ تحوّلت إلى تنديد بهذا الفرنسي الأسود الذي يعضّ اليد التي أحسنت إليه، لاسيما أنه موظف تابع للإمبراطورية الكولونيالية في أفريقيا، ما اضطره في النهاية إلى الاستقالة، والتفرّغ لكتابة روايات وأشعار وقصص فلسفية أو حكايات على ألسنة الحيوانات، علاوة على عدة سير خصّصها لبناة الإمبراطورية على غرار مَثله الأعلى بيير سافورنيان دو برازا الذي كان مناهضا للعنف.
لم يكن روني ماران مناضلا سياسيا، ولا منظرا أيديولوجيا، ولا وجها بارزا في صفوف الداعين إلى ضرورة تصفية الاستعمار وتحرّر الشعوب من أغلالها مثل فرانز فانون على سبيل المثال، بل كان يعتبر نفسه كاتبا فرنسيا مثل فرنسوا مورياك وجان جيونو وبول فاليري وسواهم، ويحلم بأن تلبي القوى الاستعمارية حاجة الأفارقة إلى الصحة والتكوين والتعليم والمساواة في الحقوق.
كما أن الرواية ليست هجوما مباشرا على الكولونيالية، ولكن ما أثار حفيظة المنتقدين هي التوطئة القصيرة التي مهّد بها الكاتب عمله إذ كتب يقول “أيتها الحضارة، يا فخر الأوروبيين ومقبرة الأبرياء، أنت تبنين مملكتك على الجثث.. تئن الدموع ويصرخ الألم لرؤيتك.. كل ما تلمسينه تحرقينه”.
أنشودة حياة
كان ماران ذا ثقافة متينة ونزعة إنسانية عميقة استوحاها من منشئه ومن القيم التي تربى عليها من خلال مطالعاته. شغل خلال ثلاث عشرة سنة منصب مفوّض كولونيالي في أوبانغي شاري ما بين الكونغو وبحيرة تشاد لإيمانه بالمهمة الحضارية للاستعمار الفرنسي، قبل أن يكتشف الحقيقة على أرض الواقع.
وتروي الرواية الانهيار التراجيدي لبلاد الباندا في أوباغي شاري، تحت تأثير الاستعمار، حيث البطل باتوالا شيخ قبيلة هرم، وذاكرة شعب بين حالين، يسترجع عزّ الماضي ويستشفّ ذلّ المستقبل ويجد صعوبة في فرض سلطته، حيث يفقد السيطرة على كل شيء، حتى على زوجاته التسع، بعد أن همّشه الاستعمار تهميشا صار على إثره عاجزا عن التصدّي للبيض الإفرنج الذين يفكّكون بلاده ويسخرّون أبناءها لأعمال شاقة دون مقابل، ما يدفعه إلى البحث عن حل لمأساته، فلا يرى غير الإدمان على الكحول أو الموت، وفي ذلك استعارة عن أفريقيا التي أدخلها الاستعمار في أزمة وجودية عميقة.
ورغم أن الرواية أنشودة للغاب بنبتها وحيوانها، وللطبيعة الأفريقية في أجلى مظاهرها، فهي أساسا إدانة للاستعمار وما خلّفه من دمار، ودعوة مبطنة إلى ضرورة نهوض الشباب بمهمة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كي تستعيد البلاد عافيتها.
يقول ستيفان برساك، المحرّر الأدبي لدار ألبان ميشيل التي نشرت الرواية أول مرة منذ قرن وأعادت نشرها مؤخرا إحياء لمئوية فوزها بجائزة غونكور “ما زالت مسألة الكولونيالية وقضايا السود والعرقية حاضرة حتى اليوم في الساحتين الثقافية والسياسية. ولئن واجه روني ماران الفضيحة في عصره، فالفضيحة لا تزال مستمرة، ذلك أن نظرة الآخر إلى الحضارة الغربية تثير حفيظة الغرب، ولذلك نحسّ أن من واجبنا أن نذكّر ونصحّح ونعيد إلى الأذهان تاريخا وذاكرة ورجالا ذوي قيمة هم منارات بالنسبة إلى الجميع”.