انتهت الانتخابات.. فهل تقدر تونس على معالجة أزمات التنمية

استكمل الرئيس التونسي قيس سعيد محطاته الدستورية والانتخابية، التشريعية والمحلية، ولم تبق سوى تفاصيل صغيرة تتعلق بتصعيد المرشحين لمجلس الجهات والأقاليم. ماذا بقي بعد تركيز المؤسسات الدستورية التي يقوم عليها النظام القاعدي الذي أراده قيس سعيد كبديل لنظام الانتخابات التمثيلية.
ليس هناك ما سيقوله الرئيس سعيد وأنصاره للناس بعد الآن سوى الحديث عن المستقبل، وعن الخطط والبرامج التي تعود نتائجها بشكل واضح عليهم، وتحسّن وضعهم الاجتماعي وتحد من أزمة المعيشة، وتدخل تغييرا على الخدمات المتهالكة التي تقدم لهم في النقل والصحة والتعليم.
من المهم الإشارة إلى أن ضعف نسبة المشاركة ولمرات متتالية، أي في التشريعية بدوريها الأول والثاني والمحلية بدوريها كذلك، مفهوم ومتوقع، ويمكن أن يتكرر المشهد نفسه مع الانتخابات الرئاسية المقررة في الخريف المقبل (بين أكتوبر ونوفمبر).
◙ الانتخابات تعطي الشرعية الدستورية، ولكنها تظل شرعية معلقة إلى حين تأكيد المؤسسات المنتخبة قدرتها على تغيير واقع الناس إلى ما هو أفضل بشكل ملموس ودون بروباغندا
قرر الرئيس سعيد أن يستبدل المؤسسات القديمة بمؤسسات جديدة تكسب النظام القاعدي شرعية دستورية، وهو أمر ليس مثار نقاش كبير لسبب بسيط أنه يريد أن يحكم بأدوات داعمة له وليس معرقلة كما حصل في السابق حين كان البرلمان يعرقل الحياة العامة ويكبل أيدي الحكومة ووزرائها وكل مؤسسات الدولة لأجل تفاصيل تافهة من بينها أن حزبا صغيرا يريد أن يلفت لنفسه الأضواء، أو أن شخصية نكرة تريد أن تصنع مجدها الشخصي على حساب القوانين التي تسيّر حياة الناس وتيسّرها.
لكن الشرعية الدستورية التي تجسدت عبر الانتخابات أثبتت أن الشارع لم يعد يتحمس للسياسة والسياسيين، وأنه ليس في صف النظام القديم ولا الجديد، وأن على الساسة أن يفكروا في مرحلة ما بعد الانتخابات وما بعد الوعود، وأنه ليس ضد النظام القاعدي في حد ذاته، ولكن طول انتظاره للإصلاحات الفعلية قد يجعله ينتفض ضد هذا النظام كما انتفض في 2010 وفي 25 يوليو 2021.
ما يهم الناس من السياسة هو ما ستجلبه لهم، وليس ما تحققه للسياسيين من مجد شخصي، أو ما تدخله من تحسينات على النظام السياسي سواء أكان معبّرا عن الشعب أم امتدادا للتمثيلية البرلمانية الكلاسيكية التي تدفع بالأثرياء ووجهاء العروش والعشائر إلى البرلمان.
خلال أكثر من سنتين منذ تغيير 25 يوليو 2021، وجد التونسيون للرئيس سعيد الكثير من الأعذار من بينها أنه يواجه وحيدا ميراثا من الفساد المتحكم في كل شيء، وأنه يقف لوحده بوجه لوبيات الفساد الإداري والمالي المتشابك مع المصالح السياسية.
لكن السؤال الآن وقد بنى قيس سعيد مختلف المؤسسات التي سعى لها: متى تنتقل الدولة من الحرب على الفساد إلى مرحلة البناء، محاربة الفساد مهمة من المهام ولكنها ليست المهمة الوحيدة، المهمة الأكبر هي تدوير عجلة التنمية.
◙ ليس هناك ما سيقوله الرئيس سعيد وأنصاره للناس بعد الآن سوى الحديث عن المستقبل، وعن الخطط والبرامج التي تعود نتائجها بشكل واضح عليهم
عامان ونصف العام من الاستكشاف والوقوف على تفاصيل ظواهر الفساد والمحسوبية والفوضى التي كانت تتحكم في مصير التونسيين، أليس هذا وقتا كافيا للبناء عليه والبدء في التغيير الهادئ البعيد عن الشعارات، والذي يجعل الناس يلاحظون بأعينهم أن البلد يتحرك إلى الأمام وأن عجلة التنمية لا تراوح مكانها.
هناك مؤشرات حقيقية على حسن النوايا من ذلك أن الدولة تحركت لاستعادة هيبتها واسترجاع ما أخذ منها بالتحايل والمحسوبية والفساد الإداري. فقد استرجعت أراضي زراعية واسعة وحقول زياتين ومزارع (ضيعات كبيرة) تابعة لها كانت مستأجرة بأثمان ومعايير ستينات القرن الماضي، وهي لم تكن توهب للفلاحين ولا للمهندسين الزراعيين خريجي الجامعات ولكن كمزايا سياسية لكسب ولاء هذه الشخصية أو تلك.
الآن بدأت الدولة تصوّب الأمور وتمنحها لمن يستحقها، وإن كان ذلك في شكل شركات أهلية ما تزال مثار شك وارتياب في قدرتها على النجاح والنهوض بالأراضي التي كانت مهملة، وألا تكرر تجربة التعاضد الفاشلة نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن العشرين.
وتحركت الدولة كذلك لتحريك مشاريع كبرى كانت معطلة لأسباب صغيرة وعقبات بيروقراطية تحتاج إلى قدرة على اتخاذ القرار، من ذلك مشاريع الطرقات السريعة والقطارات الكهربائية في محيط العاصمة، أو قنطرة بنزرت وغيرها، أو العودة إلى الاهتمام بالبيئة.
بقي أن التحرك الإيجابي للدولة هو وليد حماس شخصي من الرئيس سعيد، وتوجيهات منه عقب كل زيارة يقوم بها إلى أحد المرافق المعطلة والمهملة، وليس وليد مقاربة حكومية واضحة. لا همّ لهذه الحكومة سوى تجميع الأموال لسداد الديون الخارجية وإظهار أن البلاد قادرة على الإيفاء بتعهداتها من دون الحاجة إلى الاقتراض من صندوق النقد، أي معركة تحد سياسي بأيّ ثمن.
مع أن المنطق يقول إن صندوق النقد يمكن أن يساعد على إخراج تونس من أزمتها وخاصة يدعم خيارات قيس سعيد الهادفة إلى القضاء على الفساد وتبديد المال العام في رفاهية الإدارة وكبار الموظفين واستحداث مزايا وعلاوات من دون وجه حق.
◙ ضعف نسبة المشاركة ولمرات متتالية، أي في التشريعية بدوريها الأول والثاني والمحلية بدوريها كذلك، مفهوم ومتوقع، ويمكن أن يتكرر المشهد نفسه مع الانتخابات الرئاسية المقبلة
يمكن أن تنجح الدولة في سداد ديونها وترفع التحدي وتسكت المشككين، لكن المشكلة الأعمق أن الأموال التي تحصل عليها في شكل قروض من البنوك المحلية أو من البنك المركزي لا تحدث مفعولا إيجابيا في الاقتصاد، لأنها تذهب إلى سد حاجيات الدولة المباشرة وخاصة الرواتب والإنفاق على شركات حكومية مرتفعة التكاليف وغير منتجة حتى تحافظ على القطاع العام وتقطع الطريق على خطط الخصخصة التي يعارضها الرئيس سعيد، أي الدوران في حلقة مفرغة.
لا تقدر الدولة على أن تحدث نقلة حقيقية في حياة الناس من دون أن تخرج من هذه الحلقة المفرغة. عليها أن تتقشف في الإنفاق الحكومي بمختلف أوجهه من أجل أن توفر الأموال للدفع بالاستثمار الحكومي وتشجيع الاستثمار الخاص، المحلي والخارجي، الذي سيمكنها من الخروج من الأزمة المستحكمة.
وهناك موضوع آخر مهم، هو التعاطي مع نقص المواد التموينية الذي يتم التعامل معه بمنطق الطوارئ، أي أن الحكومة تتحرك حين تشعر بالحرج وحين يتحدث الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي عن الصفوف أمام المخابز.
من المهم أن تضع خططا وبرامج، وأن تفكر في البدائل على المديين المتوسط والبعيد، بشأن حل هذه الأزمات. فالوعي بالبدائل جزء من مسؤوليات الحكومة وليس مسؤوليات غيرها بما في ذلك رئيس الجمهورية الذي تقف مهمته عند التنبيه والمراقبة والتوجيه.
إن الانتخابات تعطي الشرعية الدستورية، ولكنها تظل شرعية معلقة إلى حين تأكيد المؤسسات المنتخبة قدرتها على تغيير واقع الناس إلى ما هو أفضل بشكل ملموس ودون بروباغندا. تغيير يمس تفاصيل حياتهم اليومية من خبز وأرز وزيت وحليب وسكر وقهوة.