الوقوف مع ألبير كامو لا يعني أننا ضد سارتر

مفكر فرنسي سار على خطى نيتشه ضد كل أيديولوجيا لترويض الإنسان.
الأحد 2024/09/15
كامو كان يمقت الذين يصبحون ثوارا لأنهم يشعرون بالملل

مرت أربعة وستون عاما على رحيل الكاتب والمفكر الفرنسي ألبير كامو في حادث سير وهو لم يتجاوز السابعة والأربعين من عمره، لكن أفكاره وتصوراته وطريقة رؤيته وتقييمه وانتصاره للمهمشين وغيرها من ملامح شخصيته الفكرية ما تزال حاضرة بقوة، بل تستعاد دائما شأنه شأن المفكر الألماني فريديريك نيتشه، فما يجمع الاثنين أكثر مما يفرقهما.

يمثل المفكر رمزا لعصره ويحمل هموم مرحلته التاريخية، محددا بمواقفه ومشاركاته مساحة دوره على مسرح الحدث. وهو يعبّر عن روح زمنه من خلال الانخراط في معمعان الواقع، مستطلعا اختبار مجساته المعرفية وفاعلياتها في تشخيص سؤال المرحلة. ولا شك أن المعطيات الفكرية المنبثقة من مختبر تجارب فاصلة لا تفقد حيويتها مهما كانت الوقائع التي تباغت العقول بخلط الأوراق والإبانة عن خطأ المعادلات العالقة في رؤوس أصحابها.

لعل المفكر والكاتب الفرنسي ألبير كامو من بين القلائل الذين تستعاد أفكارهم باستمرار. وذلك يمكن فهمه على ضوء الترابط بين ما تناوله كامو في مؤلفاته من المواضيع الإنسانية ومحطات من حياته الشخصية. لذلك عندما سئل عن مدى إلمامه بماركس ودور كتابات صاحب “العائلة المقدسة” في تعمق وعيه بفلسفة الحرية أجاب بأن معاناته مع البؤس قد علمته مبدأ الحرية. إذن الواقع يسبق التنظير في منهاج كامو. وهذا ما يضفي على آرائه المصداقية والراهنية.

إرادة حرة

 لا تفصل أعمال كامو الفكرية والأدبية عن مسيرة حياته، وفي ذلك يتقاطع دربه مع نيتشه، وغني عن القول إن فيلسوف المطرقة قد استمد مستند آرائه العاصفة من صراعه المرير مع المرض. يشار إلى أن كامو قد اعترف بأنه كان مدينا، ولو جزئيا، لنيتشه بما هو عليه. أكثر من ذلك ما يؤكد بأن خط الفيلسوف الألماني كان يستهويه في التفكير أنه نشر مقاله الأول بتشجيع من أستاذه جان جرينه عن نيتشه والموسيقى. والأهم في هذا السياق أن كتاب “العلم المرح” هو ما وجد في حقيبة كامو عندما تم العثور عليها بعيدا عن السيارة التي يقودها وأسفر اصطدامها بشجرة على جانب الطريق عن مقتله.

◄ كامو لا ينكر إعجابه بتصوير سارتر للعالم بنسخته الثقيلة والغاشمة، لكن يرفض أن يصل به ذلك صوب الاستنتاج بأن "الحياة مأساوية لأنها بائسة"
كامو لا ينكر إعجابه بتصوير سارتر للعالم بنسخته الثقيلة والغاشمة، لكن يرفض أن يصل به ذلك صوب الاستنتاج بأن "الحياة مأساوية لأنها بائسة"

كتب كامو في مذكراته بأنه كلما سمع القصة التي تروى عن محاولة نيتشه لحماية الحيوان الذي انهال عليه سوط الحوذي كان يبكي. ومن الواضح أن صاحب “الغريب” كان مستجيبا لهواه النيتشوي في رفضه للأيديولوجيا والمشاريع الهادفة لترويض الإنسان. لذلك لا يطول به المقام في الحزب الشيوعي الجزائري فيطرد منه، ويواجه المصير نفسه مع الحزب الشيوعي بنسخته الفرنسية، ويعلّق على هذا الموقف قائلا “أنا منبوذ من السياسة لأنني غير قادر على الرغبة أو القبول بموت الخصم”.

لم يقتنع كامو باختزال الحياة على رحابتها في زاوية فلسفة محددة أو تيار سياسي معين. فما جربه فعليا في طفولته من المكابدات الحياتية ومن ثم تشظي هويته بين الجزائر وفرنسا، قد أشرع له الباب على المعترك الفلسفي.

ما يجب التذكير به قبل الحديث عن ملعب كامو الفكري والصراعات التي خاضها في غضون حياته القصيرة أنه قد رفض الانتساب إلى صف الفلاسفة ونفى بأن يكون فيلسوفا. لكن مع ذلك يجمع خيط ناظم بين أدبيات كامو، الأمر الذي يتجلى بوضوح في مناقشته لمفاهيم ملازمة لمصير الإنسان وموقعه الوجودي واختياراته.

ربما اللافت للاهتمام في مؤلفات ألبير كامو هو الملمح العبثي في رؤيته للحياة وفهمه لمعاناة الكائن البشري. لذا يبدأ الكاتب روبرت زارتسكي مؤلفه المعنون “حياة تستحق أن تعاش” مرفقا بعبارة توضيحية “ألبير كامو والبحث عن المعنى”، بتناول مفهوم العبث وما عنى هذا المفهوم بالنسبة إلى كامو، عائدا إلى بدايات ظهور هذه المفردة في كتاباته عندما كان طالبا في جامعة الجزائر، إلى أن يتحول العبث ثيمة بارزة في أعماله الأدبية، كما يكون نواة لرحلة تأملاته الفلسفية.

 يكتب كامو في يومياته مقارنا بين ما كانت عليه وظيفة الفيلسوف في الماضي وما يمكن أن يقوم به العامل في الحقل الفلسفي في الحاضر. فالأوائل كانوا يفكرون أكثر مما يقرأون بينما انتهى المطاف بالمعاصرين بالوقوف عند حدود القراءات، ويؤكد في ذات السياق بأن كل ما هو موجود لدى مجايليه عبارة عن تعليقات وليس فلسفات. وبذلك لا يهم كامو بناء صرح فلسفي أو الإعلان عن مذهب جديد بقدر ما أراد العمل بالمبدأ النيتشوي أي فهم الفلسفة بوصفها أمرا شخصيا.

◄ فرادة كامو تكمن في رصده للثغرات التي يتسرب من خلالها طاعون الأفكار الشمولية إلى الرؤوس والأنظمة

كان حديث كامو عمّا وجده مشكلة فلسفية وحيدة جديرة بالتأمل، هو الانتحار، وقد وردت بصيغة مدوية “فالحكم بأن الحياة تستحق أن تعاش يسمو إلى منزلة الجواب الأساسي في الفلسفة”. يشير زارتسكي إلى أن أندريه مالرو قد أخطأ في فهم رأي كامو لأن الأخير لم يدع إلى الانتحار، وملاحظة عبثية الحياة ليست نهاية بل هي مجرد بداية. والأهم في هذا المنحى هو النتائج والقواعد التي من المتوقع صياغتها بعد اكتشاف البعد العبثي في الفرصة الوجودية.

 وهنا من الضروري التنويه بأن الإنسان يتعود على العيش قبل أن يتعلم التفكير حسب تعبير كامو، لذا يكون السؤال عن معنى الحياة مؤجلا، ولكن ما إن يراوده هاجس المعنى حتى يتفاجأ بالصمت الذي يحاصره من كل الجهات، وبالتالي يكون “العبث هو تجربة يجب أن نعيشها ونجرّبها”، لأنه يعادل في وجوده شك ديكارت المنهجي.

غني عن البيان بأن مقاربة كامو للعبث قد اتخذت مدى أوسع، ولم تكن حبيسة الشكل التنظيري إنما تمظهرت الروحية العبثية في نصوصه المسرحية والروائية، وكان تأليفه للأعمال التي تعكس رؤيته الفلسفية متقاربا ولم تفصل بين إصدارها أوقات متباعدة.

 لا يتابع روبرت زارتسكي عالم ألبير كامو من زاوية كتبه فحسب بل يبحث عن صوته الفكري في مقالاته المنشورة بالصحف التي كان مشاركا في تحريرها. تستشف من المراجعة التي قدمها لرواية “الغثيان” وقصة “الجدار” عن نبرة تائقة للمعرفة لا يطيب لها سوى مناقشة ما يبدو فكرة محورية في النص من خلال التعقيب والجدل.

 لا ينكر كامو إعجابه بتصوير سارتر للعالم بنسخته الثقيلة والغاشمة، لكن يرفض أن يصل به ذلك صوب الاستنتاج بأن “الحياة مأساوية لأنها بائسة”. لأن كامو لا ينشد حياة سهلة إنما يتضاعف شوقه لمغامرته الوجودية كلما ذاق طعم الجمال والحب وراوغ الخطر.

العبثي المخضرم

عركت كامو تحديات مضنية لذا كان نبوغه الفكري مبكرا ومخضرما في العبث، إذ يفقد والده في معركة المارن، وما إن تمضي به الأيام إلى مشارف شبابه حتى يحرمه مرض السل من ممارسة لعبته الأثيرة “كرة القدم”، ولا يضاهي حبه لهذه الرياضة إلا شغفه بالمسرح.

◄ الكاتب روبرت زارتسكي يبدأ مؤلفه المعنون "حياة تستحق أن تعاش بتناول مفهوم العبث وما عنى هذا المفهوم بالنسبة إلى كامو
الكاتب روبرت زارتسكي يبدأ مؤلفه المعنون "حياة تستحق أن تعاش بتناول مفهوم العبث وما عنى هذا المفهوم بالنسبة إلى كامو

لا شك أن نشأته في أسرة يسود فيها الصمت كان لها دور في البحث عن الفعاليات التي تكسبه الشعور بالتضامن والمشاركة في روحية الفريق. أعلن كامو معارضته للتنكيل بالسكان العرب والأمازيغ في الجزائر، وهذا ما أدى إلى إغلاق صحيفته، وتأليب السلطات الفرنسية ضده. كما شهد كامو هزيمة فرنسا وسيطرة ألمانيا النازية على معظم أجزاء القارة العجوز. وبالطبع فإن ما عاصره من الأحداث المزلزلة قد زاده إدراكا بتعقيد المصير البشري، لذلك يؤكد بأن من يصيبه اليأس من الأحداث هو جبان، ولكن من يشعر بالأمل حيال الشرط الإنساني فهو مجنون. ما يعني أن الإنسان محكوم عليه بالاختيار بين المواجهة دون الأمل أو التبلد الناجم من الوعود العريضة.

صرحت الأدبية البريطانية آريس مردوخ بأن الحياة الشخصية هي المصدر الوحيد للأدب الحديث، وهذا ما ينطبق على الرواية التي نشرت لألبير كامو بعد رحيله بعنوان “الرجل الأول”، إذ يسرد في سياقها سيرته الشخصية مهتما أكثر بتصوير تشكيلة الأسرة وملامح البيئة التي عاش فيها الطفولة.

 كما أن الوالد على الرغم من غيابه فإن طيفه يتغلغل في القصة المسرودة فيزور الابن قبر أبيه ويصطدم بأن الرجل المتواري تحت التراب أصغر منه سنا. يذكر روبرت زارتسكي بأن كامو فعليا يعاين مدفن والده خلال زيارة لمقبرة عسكرية في مدينة سان بيرك. معلقا بأن ما يرويه صاحب “الطاعون” في نصه الروائي ليس إلا إعادة لحدث واقعي.

يلتفت زارتسكي إلى الصمت الذي غلف حياة كامو رائيا في ذلك امتدادا لصمت الأم التي يعتقد بأن صدمتها بمقتل الزوج تركتها بلسان ثقيل. ومن المعلوم أن شخصية الأم بهدير صمتها أكثر حضورا من الشمس والبحر في كتاباته، الأمر الذي تتأكد منه دون عناء عبر البحث في “الغريب” و”الرجل الأول” و”الموت السعيد”.

صحيح أن تصرف شخصياته لاسيما ميرسو وباتريس مسكون بالعبثية، فرحيل الأم لا يكون له صدى عاطفي بالنسبة إلى الاثنين، غير أن الخواء الذي يغزو عالم الشخصيتين ناشب من موت الأم، يذهب البعض إلى أن كامو يرمز بالأم إلى فرنسا في تصريحه الشهير بأنه بين العدالة والأم يختار أمه. وفي الواقع هو أبعد ما يكون عن التورية في كلامه هذا. لأن كل ما أراده كامو في العالم هو أن تتمكن والدته من قراءة كل ما يشكل حياته وكيانه، وكان يصعب عليه أن تكون الأم خرساء إلى الأبد. فعلا إنه كان يؤمن بالحضارة الغربية وبمرونتها في التعافي من الأخطاء والعثرات لكن القول بأنه يقصد بالأم فرنسا أو الغرب لا يتسق مع ما يضمره كامو من الحنين إلى الجزائر.

صراع فكري

كان القرن العشرون حافلا بالأحداث والتحولات المتسارعة من صعود الأيديولوجيات وتهاويها، وما تبع ذلك من النكبات التي حلت بالكيانات البشرية، مقابل هذا الواقع التراجيدي راج الإيمان بالأيديولوجيات الخلاصية، بالطبع لم يقف الصراع عند حدود الانقسام السياسي، بل انتقل إلى حلبة الأفكار، إذ تحرك الوسط الثقافي الفرنسي على إيقاع السجال الذي نشب بين ألبير كامو وسارتر وانتهى بالقطيعة بين الصديقين.

مع أن كل واحد منهما كتب عن الآخر، يلتقي كامو بسارتر في عام 1943، وبدأ التعاون بينهما، وكان التواصل مستمرا بين الاثنين إلى أن لاحت بوادر التباين في المواقف بشأن الشيوعية والحرب الباردة. وظهر الخلاف في العلن عندما نشر كامو “الإنسان المتمرد” مصنفا فيه الشيوعية السوفييتية ضمن الأيديولوجيات الشمولية التي تسحق الإنسان تحت يافطة المستقبل الموعود بالمساواة ونهاية الاضطهاد الطبقي. وهذا كان نوعا من الدجل العقائدي يفاقم من البؤس الإنساني.

◄ كامو لم يهتم ببناء صرح فلسفي أو الإعلان عن مذهب جديد بل عمل بالمبدأ النيتشوي أي فهم الفلسفة كأمر شخصي

لا شيء يفوق الحياة قيمة بالنسبة إلى ألبير كامو. فالثورة برأيه لا بد أن تكون من أجل تحسين الحياة وإعطاء الحياة فرصة. أما قيام الثورة لانتزاع السلطة من فئة ومنحها لفئة أخرى غالبا ما ينتهي بتنظيم قوة للبوليس والتوثين. ولم يتأخر سارتر في الرد على آراء كامو ليوبّخه على وقوفه ضد التاريخ بدلا من تفسير مساره، ولم يكتف مؤلف “الدوامة” بذلك إنما سخر من غريمه فاتحا صفحة عيوبه الشخصية من الكآبة والغرور والضعف.

استغرب كامو من شراسة موقف سارتر وأصحابه مدونا في يومياته بأن ثقل التطلعات الأيديولوجية قد أجبر سارتر على الاستسلام للشيوعية. وما ينبه إليه كامو ويرى فيه خطرا ماحقا على الإنسان هو خلو الأيديولوجيا من الخيال الأخلاقي، ولولا افتقاره للخيال لما تورط بيير بوتشو في ارتكاب جرائم بشعة بحق الفرنسيين.

يذكر روبرت زارتسكي في سياق حديثه عن مفهوم التمرد بالشاب التونسي محمد البوعزيزي وهو بانتحاره قد أجج سلسلة من الحركات المتمردة على الأنظمة السياسية مناقشا من جديد خيار الانتحار من منظور ألبير كامو. ولا تفوت زارتسكي الإشارة إلى ما قاله كامو عن العنف بأنه ظاهرة لا يمكن تجنبها ولا تبريرها في آن معا. مشددا على أن كراهيته للعنف أقل من الأنظمة القائمة على العنف.

عدا ما درسه في كتبه الفكرية فإن ألبير كامو ما برح يتناول في أعماله الأدبية العبث والثورة والتوتاليتارية ويدور الكلام بين شخصيات رواياته ونصوصه المسرحية عن المسؤولية والأخلاق والضجر. ويعبّر عن مقته للأشخاص الذين يصبحون ثوارا لأنهم يشعرون بالملل.

أخيرا لا ينكر بأن هناك من يسأل عن مناسبة الحديث عن كامو وصراعه مع غريمه سارتر. هل الغرض من ذلك هو قطع الشك باليقين على صوابية موقف كامو وصحة تنبّئه بانهيار الشيوعية؟

من السذاجة الاعتقاد بأن العالم الذي تنفرد بإدارته الرأسمالية هو ما يلبّي تطلعات كامو، لأنه قد كان واضحا في اختياره الوقوف مع المغمورين وليس إلى جانب السلاطين أو صناع التاريخ. وتكمن فرادة كامو في رصده للثغرات التي يتسرب من خلالها طاعون الأفكار الشمولية إلى الرؤوس والبرنامج النظامي لا يهم إن كانت هذه الأفكار تلفع لبوسا شيوعيا أو رأسماليا أو دينيا. لأن حصيلة دعواتها ليست إلا التضحية بالإنسان من أجل ما يصطلح عليه بتصحيح حركة التاريخ.

◄ كامو لا ينكر إعجابه بتصوير سارتر للعالم بنسخته الثقيلة والغاشمة، لكن يرفض استنتاج أن الحياة مأساوية
كامو لا ينكر إعجابه بتصوير سارتر للعالم بنسخته الثقيلة والغاشمة، لكن يرفض استنتاج أن الحياة مأساوية

 

9