الوقت حان لكي يبتكر العرب مناهج نقدية خاصة

تعوّدنا أن نأخذ من الغرب كل شيء، حتى نظرياته ومناهجه النقدية، ورغم أن الزمن أثبت تهافت هذه المناهج، أو ارتباطها بخلفيات أيديولوجية، ما زلنا متشبثين بها، نُخضع لها نصوصنا بدعوى مواكبة العصر حينًا، والأخذ بأسباب العلم من مظانّه حينًا آخر، ونتحيّن فرصة ظهور موضة نقدية جديدة كي نرتمي عليها ارتماء القَرِم على اللحم، بدل أن ننهل من موروثنا ما يفيدنا في صياغة نظرية، أو نظريات نقدية جديدة.
يخضع النقد الأدبي في أوروبا لخيارات مهيمنة يعود القطب فيها مرة إلى المؤلف (الأثر والمؤلف) ومرة إلى القارئ (الأثر والقارئ) ومرة إلى الموضوع الذي يحويه الأثر ويكون جزءا منه (الأثر والموضوع)، ونادرا ما يكون للأثر وحده.
على هذه الأقطاب الأربعة انبنت أهمّ اتجاهات النقد الأدبي منذ نحو نصف قرن، منها ما عالج المشاكل الخاصة بعلاقات الأثر بالمؤلف كغياب المؤلف أو موته، ومنها ما اهتم بالقراءة وفعل القراءة ودراسة التلقي، ومنها أيضا ما أثار الأسئلة المتعلقة بالتمثيل، ومنها أخيرا ما انكب على بنية الأثر نفسه كالشكلانية والبنيوية.
التقليل من شأن الأدب
الغالب على المشهد النقدي أنه يلتقي في التقليل من أهمية الأثر الأدبي، فقد اعتبرت تلك التيارات الأدب مجرد شكل من أشكال النشاط الاجتماعي والثقافي، يحتمل التحليل البنيوي اللغوي والعلاميّ كسائر الأنشطة الأخرى.
ومن أمثلة ذلك دراسة مسرودية “في البحث عن الزمن الضائع” لجيرار جينيت، التي أكد فيها أن المفهوم المضمر أو المظهر للسردية التي تستند إليها تلك الدراسة ليس مفهوم السردية الأدبية وحدها بل كل سردية، إن كنت أنا السارد اليوم، فسأحكي ما جرى أمس أو أول أمس أو قبله، وبوسعي أن أفرض نفسي كفاعل أو غير فاعل لما حدث أمس. فالجهاز الذي يصفه جينيت بخصوص “البحث” ليس جهازا أدبيا صرفا، ولو أنه ينتهي في تحليله إلى القول إنه قد يكون جهازا أدبيا.
المناهج النقدية، التي ما زلنا نلوكها، لم تعد ملائمة لأن الآفاق البراغماتية التي تربطها بالأدب كانت أيديولوجية
كذلك المقاربة البنيوية والشكلانية، فكلتاهما لا تعتبر الأثر كذلك بالضرورة، وهي مفارقة عجيبة نجدها حتى في دراسات التلقي وجمالياته، مهما كانت أنماط التلقي المقصودة. فالأفق التأويلي كما أوضحه فولفغانغ إيزر هو أفق تملك للأثر وليس أفق عودة موضوعية إلى الأثر حسب التناول الهرمينوطيقي. والأمثلة على ذلك كثيرة، فدراسات التلقي لا تنظر إلى الموضوع الأدبي بوصفه ذاك، بل تستعيض عنه بالوظيفة البويطيقية، أي الشعرية كما حدّدها رومان جاكبسون.
إلى جانب التقليل نجد مشكلة أخرى، حيث يكثر الحديث عن جمالية الأثر الأدبي دون أن يستقر الأمر على تعريف ثابت لتلك الجمالية، ولا على خصائص محددة لماهية الأدب.
في كتاب “مبادئ النظرية الأدبية”، كان جان بيسيير قد لاحظ أن أزمة الدراسات الأدبية لا تنفصل عن إغفال الأثر الأدبي نفسه، وعاين المفارقات الشكلية والدلالية في تناوله، مثلما عاين المفارقة بين التقليل من قيمة الأدب من جهة والتأكيد على أهميته من جهة ثانية. وانتهى إلى ضرورة إعادة النظر في النظريات الأدبية، وإعادة بنائها حسب الاتجاهات التالية:
أول تلك الاتجاهات يتمثل في مواجهة حقيقية لما ينبغي أن يكون عليه مفهوم الأثر الأدبي، بشكل يجنب الوقوع في اجتماع الأضداد. وثانيها ضبط شروط إعادة تعريف الأدب على مستوى التمثيل. وثالثها تحديد براغماتيةٍ للأدب، وهي التي تم إنكارها أو إهمالها في مقاربات الأدب اللازمة، أي التي لا تنزاح إلى سواه.
انتهاء المناهج
قد يبدو أمر تحديد مفهوم للأدب غريبا لأن ذلك من الأمور البديهية، فالأدب في الأذهان يقترن بما هو مكتوب ومنشور حسب أجناس الكتابة المعلومة، وحتى ما جدّ من أجناس كالتخييل الذاتي وتخييل الآخر، ولكن بعض المنظرين يبتدعون مقاربات تدّعي تأصيلا نظريّا أو إجرائيّا،
ويأتون بمصطلحات يعتبرونها مكوّنات أساسية تشكل أفق انتظار القارئ، والحال أنها ترغم القارئ على أن يسجن نفسه داخل سنن معيّنة من القراءة وآفاق التلقي.
من ذلك مثلا العقد القرائي الذي يقترحه فيليب لوجون كمقولة أوّليّة تحدد العلاقة بين القارئ وجنس النص الذي سيقبل عليه، وكأن القارئ لا يتوصل بمفرده إلى فهم طبيعة ذلك النص إلا إذا أبرم عقدا مسبقا مع الكاتب من خلال نوع الجنس الذي يدوّنه الكاتب على غلاف كتابه، أو ما يسميه نقاد الأدب بالإعلان الإجناسي. كذلك العتبات النصية التي جاء بها جيرار جينيت، كفضاء الصفحة الأولى والعنوان الرئيسي والعناوين الفرعية والعقد القرائي الذي يعلن الانتماء إلى جنس مخصوص من الكتابة. والحال أن كتبا كثيرة لا تنبئ عن جنسها، ويهتدي إليه القارئ بسهولة دون وساطة أحد.
ثمّ إنّ العتبات، أو المناص، التي يعتبرها جينيت مداخل لأي كتاب، تحمل في طياتها مفارقة رئيسية كما بيّن جان بيسيير، أستاذ الأدب العام والأدب المقارن في السوربون. فمن ناحية يفترض تمييزُ المناص جماليةً اسمانيّة (والاِسمانية أو الاِسمائيّة هي مذهب فلسفي يقول إن المفاهيم المجردة ليس لها وجود حقيقي، وإنما هي مجرّد أسماء)، فالكتاب كتاب لأن ذلك ما كُتب عليه، والرواية رواية لأن عنوانها الفرعي يعلن عن ذلك.
ولكن جينيت يقترح من ناحية أخرى وصفا آليا للمناص، وتلك مفارقة لأن كتابه “عتبات” لا يفصل بين الوصف الآلي الذي يُقَعِّد المناص، والاسمانيّة التي يفرضها تمييز المناص. وفي رأي بسيير أن تصويب تلك المفارقة يؤدي إلى ما يلي: غلاف الكتاب يفصل الكتاب، فيكون عازلا، بمعنى أن غلاف النص الذي يضمّه ويحدده يشير إلى تمثيل ما، فبعزله وفصله عن طريق الغلاف يتبدّى النص. وسواء اعتمدنا الفينومينولوجيا أو الهرمينوطيقا فالمعاينة هي نفسها “الأثر، سواء أكان منحوتة أم لوحة أم عرضا فرجويّا أم رواية، أمامي”.
إن المناهج النقدية، التي ما زلنا نلوكها، لم تعد في ديار أهلها ملائمة، لأن الآفاق البراغماتية التي نربطها بالأدب لم تكن منفصلة عن الآفاق الأيديولوجية، التي لا تنفصل بدورها عن المقاربات الشكلانية والبنيوية للآثار الأدبية، فبارط مثلا كان يتناول بنفس الحجة، مسائل شكلانية عن السردية مع خلفيات أيديولوجية.
ومع تراجع الأيديولوجيا لأسباب تاريخية وسياسية، بات من الصّعب ممارسة النقد بنفس النظريات السابقة، ما فتح الباب أمام نظرية التلقي وجمالياته، رغم أنّها تميز بين النص وفعل القراءة، فتعتبر المكتوب ثابتا، دائما، قابلا للنقل، فيما القراءة عارضة، تتغير بتغير صاحبها، أي أنّ النظرية تنصب أساسا على تحولات القراءة من شخص إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، والتركيز على أفق الانتظار كمحدد للفارق الجمالي الذي يسمح بقياس تاريخية النص، ويبقى النص نفسه دون تلقّيه أهمية.
وجملة القول إن الوقت حان كي نبتكر مناهجنا الخاصة، ولا نواصل الاتكاء على مناهج غربية، تجاوزها الزمن في عقر دارها.