الوجه مرآة للاعتراف

لطالما حلم الرسامون بأن يستخرجوا من أعماق اللوحة البيضاء شخصا يشبههم. شخصا يقول لهم الحقيقة. حقيقة الألم واللذة ممزوجين أثناء القيام بممارسة الرسم. ذلك الشخص الذي يقف بينهم وبين أرواحهم. لذلك رسموا وجوههم في حالات ومراحل مختلفة. فعل ذلك رامبرانت وهو يسجل سيرة جسده من الشباب إلى الشيخوخة. فريدا كاهيلو رسمت نفسها غرورا لتهزم العالم الذي حطمها. أما فنسنت فان غوخ فإن أحدا لم يسبقه في ماراثون الوصول إلى النفس الأخير.
رسم 39 لوحة لوجهه في أربع سنوات قضاها في آرل جنوب فرنسا قبل أن ينتحر. كانت تلك هي رسالته إلى العالم الذي نبذه ودعاه إلى أن يهجره.
اليوم ينظر العالم إلى تلك اللوحات باعتبارها جزءا من كنوزه الروحية. هل علينا أن نصدق ذلك؟ فنسنت لم يكن يلهو. كان في حالة نفسية لا تسمح له باللهو. وكان يعبئ صوره مشاعر وأفكارا بل وصراخا عجزت رسائله إلى أخيه تيو أن تستوعبه.
وبتأثير من فنسنت تعلّق الكثير من الرسامين بالوجه ليشقوا من خلاله طريقهم إلى النفس البشرية. كانت الصداقة تهيم فوق خرائط ذلك الوجه. ثلاثة رسامين هم لوسيان فرويد وفرنسيس بيكون وديفيد هوكني رسم بعضهم البعض الآخر وكانوا يشعرون بالبهجة، إذ أن كل واحد منهم اكتشف شيئا من نفسه في أعماق الآخريْن. كان الوجه ممرّا إلى روحه. لم يرسموا وجوه بعضهم للذكرى.
“ترسمني لكي ترى نفسك قبل أن تراني”، كانت تلك الجملة التي يمكن أن يقولها الشخص الذي يجلس لكي يُرسم. وإن ترسم رساما فالأمر لا يخلو من التحدّي. ذلك لأن الرسام لن يغفر لك خطأ ترتكبه وأنت تحاول الكشف عمّا لا يراه شخصيا في المرآة.
مرآة الرسام لا تُظهر الملامح الخارجية فقط بل تذهب إلى أعماق الروح. لقد قام فنسنت بأعظم نزهة يمكن أن يقوم بها رسام. فكانت لوحاته الشخصية بمثابة محطات تعرّف من خلالها على ما يحدث داخليا وترك لنا سجلا عن الروح البشرية، وهي تكشف عن تجلياتها التي تضيء ليل المعرفة.
حين يرسم الرسام وجهه فإنه يقف أمام الشخص الذي يشبهه في لحظة اعتراف نادرة.