الهودج.. عرش الفروسية وزينة الصحراء

الهودج لم يكن مجرد وسيلة للانتقال بل هو رمز ثقافي ارتبط بأشعار العرب وأساطيرهم وبقي شاهدا على تراثهم.
الأحد 2025/03/30
علامة فارقة في ثقافة البدو

الهودج، هذا الاسم الشاعري الذي تردد في أفواه العرب منذ القدم، يستحضر صورا من الأناقة الفائقة والقوة الخالدة في عالم الفروسية، كان البدو يعتبرونه رمزا للعزة والشموخ، وركنا أساسيا في تراثهم العريق. قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة: تبصر خليلي هل ترى من ظعائن/ تحملن بالعلياء من فوق جرثم.

هذه الكلمات تخلد مجد الهودج وسحره، الذي يتناغم مع جمالية الفروسية التقليدية، ويعكس فخامة وأصالة الماضي. وقبل أن نخوض في تفاصيل أنواعه واستخداماته، لا بد أن نلقي نظرة على مكانته بين العرب قديما والدور الذي لعبه في رحلاتهم، فهو ليس مجرد وسيلة للانتقال، بل رمز للعزة والرفعة، ارتبط بأشعارهم وأساطيرهم، وبقي شاهدا على تراثهم العريق. يقول عنترة بن شداد: إن الرجال لهم إليك وسيلة/ إن يأخذوك تكحلي وتخضبي/ ويكون مركبك القعود ورحله/ وابن النعامة يوم ذلك مركب/ وأنا امرؤ إن يأخذوني عنوة/ أقرن إلى شر الركاب وأجنب.

تنوعت أدوات الزينة الخاصة بالهودج حسب نوعه: الأول هو الهودج المعد للركوب أثناء المسير والترحال، والثاني هو الهودج المبني على شكل هرمي مقلوب والمزين بريش النعام.

◄ روعة الهودج تتجسد في تلاحم الأناقة الفائقة مع القوة الخالدة، محملة بتاريخ وتقاليد تنبض بالأصالة والفخر

النوع الأول، وأعلاها صنفا وفخامة، يسمى “كتب” (الكاف المعطشة) “الكتسب” ويعرف أيضا باسم “القتب”، يصنع عادة من أعواد شجر اللوز ويغطى بقطع مخصصة من القماش تدعى السجف ومنها “حتي”، تزينه شرائط طويلة تتدلى من أعلاه حتى تصل إلى بطن الجمل الذي يحمله، مما يجعله صرحا يتميز بأناقة صناعته ويبعث على الرهبة بسبب هيبته، ويجذب بجلساته الممتعة والمثيرة، يستخدم “المقصر” غالبا يستعمل أثناء الرحيل أو السفر للمرأة التي لديها أطفال صغار، ويطلق على “المقصر” البعض “الظعن”، أما “القن”، فهو أصغر حجما وأقل ارتفاعا من “المقصر”، ويخصص عادة لكبار السن، وهو أصغر أنواع الهودج المخصص للنساء كبيرات السن، كل نوع يتميز بمسميات مختلفة تضفي عليه لمسة من الفخامة والتمييز.

وبينما كان النوع الأول يتجلى في الأناقة والفخامة، فإن البدو لم يقتصروا على هذا الشكل، بل ابتكروا نوعا آخر، أكثر ارتباطا بالحروب والمشيخة، وهو الهودج الحربي ذو التصميم الفريد، حيث يبنى عادة من أعواد شجر اللوز على هيئة هرم مقلوب، ويزين بريش النعام فقط، دون أي قطع خارجية من السجف، لم يكن مجرد وسيلة ركوب، بل كان رمزا حربيا، ويكون مقره الدائم بيت المشيخة للقبيلة، ولا تركب بداخله إلا إحدى النساء من أسرة الشيوخ، وتسمى “العطفة”. ويعرف هذا النوع الثاني من الهودج باسم “المركب” قال البدوي: لعيون من لبس الحرير/ شقر ذوايب راسها/ وليا تلاقوا بالوعد/  والشيخ بيمحاسها.

وقال بدوي آخر: لي صاحب زين شقاح/ حلو سواد عيونها/ لي فرعت على المبطاح/ العمر يرخص دونها. (المبطاح هي الأعواد في أعلى الهودج التي تمسك بها العطفة للنهوض).

من بين أنواع الهودج، تتفاوت التصنيفات من الأرقى إلى الأدنى، مثل: الهودج، المركب، المزين، الظله، الحني، والمقصر او الظعن، القن، كل نوع منها يتميز بمسميات مختلفة تضفي عليه لمسة من الفخامة والتمييز.

“الظلة” هو أحد أسماء الهودج، المركب الخاص بالمرأة البدوية أثناء الترحال أو التنقل، ويطلق على الجمل الذي يحمله اسم “قعود الظلة”، سمي كذلك لأنه البعير المدلل، المخصص لحمل الهودج، والذي يكون دائما مبركه في الظلال، بالقرب من الشق المخصص للنساء في بيت الشعر “المحرم”. ولأن الهودج لم يكن مجرد وسيلة نقل، بل رمزا للقوة والعزة، تغنى به الشعراء في قصائدهم، فنجد ذكره حاضرا في الحداء البدوي والشعر النبطي، كما في هذه الأبيات قالت البدوية: ‏الله على ركبة الظلة/ ‏فوق اشعل الزمل نوادي/ ‏وجدي على امبهر الدلة/‏ الغشمري قرم الأولادي.

◄ الهودج كان رمزا للعزة والشموخ وركنا أساسيا في تراث البدو العريق
الهودج كان رمزا للعزة والشموخ وركنا أساسيا في تراث البدو العريق

‏ ولا يسرح مع بقية الإبل في المراعي خارج مضارب القبيلة، ليبقى في مأمن من المخاطر، دائما محاطا بحمى الأمان، لكن هذا القعود لم يكن مجرد رفيق في الترحال، فقد ظهر له دور آخر أكثر هيبة، إذ كان يذكر في ساحات المعارك كرمز للفروسية والإقدام، كما قال البدو في حدائهم عند الهجوم: شردان قعود الظلة/ البيت امعقب له/ والنار والقهوى غله/ محدن على دلته.

وهكذا، لم يكن الهودج مجرد هيكل يحمل على ظهر الإبل، بل كان علامة فارقة في ثقافة البدو، يحمل في طياته قصصا عن السفر والمجد والمعارك، كما حفظتها ذاكرة الصحراء من أبناء قبيلتي الدعجة، الذين سطروا بفروسيتهم وشجاعتهم فصولا من العزة والإقدام، ليبقى الهودج، مثل فرسانه، خالدا في الذاكرة كجزء أصيل من تراثنا العريق.

تتجسد روعة الهودج في تلاحم الأناقة الفائقة مع القوة الخالدة، محملة بتاريخ وتقاليد تنبض بالأصالة والفخر، فمن خلال تفاصيله المتنوعة وتصنيفاته الفريدة، يبرز كل نوع منه كرمز للتميز والتفرد في عالم الفروسية التقليدية، معززا بشعر الحداء الذي يجسد معاني البسالة والإقدام، لم يكن الهودج مجرد أداة زينة، بل هو جزء لا يتجزأ من موروثنا الثقافي، محفور بأحرف من ذهب في ذاكرة التاريخ، شاهدا على عراقة تراثنا العربي.

9