حين صمتَ العالم، تكلّمت غزة

في زمنٍ تُدار فيه الحياة بزر إطلاق، وتُختصر فيه الجغرافيا بنقطة استهداف، يغدو الحديث عن الإنسان ترفا، وعن الضمير ضعفا، وعن الحكمة خيانة للقسوة السائدة. من طهران إلى تل أبيب، من سماء دمشق إلى أطلال غزة، ينفتح الشرق الأوسط على فوهة عمياء، تتبادل فيها العواصم النيران وكأنها تعبد آلهة من حديد، بينما الإنسان، الإنسان فقط، لا يزال يدفع ثمنا لا يخصه.
ليست هذه حربا على مشروع نووي ولا ردا على هجوم سيبراني، إنها حرب على المعنى، على الروح، على الذاكرة. كل صاروخ يُطلق اليوم في سماء هذه المنطقة ليس إلا اعترافا جماعيا بأن العجز الأخلاقي انتصر على كل ما تبقى من حكمة. منسوب الصمت ارتفع، منسوب الدماء ارتفع، منسوب العقل انخفض حتى غدا معدوما. ومن وراء الستار ثمة من يراقب بدهاء، كم فلسطينيا سيُولد في الزنازين أو تحت الردم؟ كم طفلاً سيفقد أباه قبل أن يعرف اسمه؟ وكم عاصمة ستعتاد أن ترى المجازر كأحداث جانبية في نشرة الأخبار؟
غزة، تلك البقعة التي يُفترض أن تكون “عارنا الجماعي”، تحولت إلى جرس إنذار كوني، لا يدقّ فقط لينبّه العرب، بل ليفضح هشاشة القيم الدولية التي تعمّدت أن تصمّ آذانها. لا يمكن للعالم أن يتباكى على المدنيين في أوكرانيا بينما يبارك بالصمت جثث الأطفال في الشجاعية ورفح. لا يمكن أن تكون الإنسانية مزدوجة، إلا إذا كنا شهود زور على موتها. نعم، الجميع يلوّح بالنار، لكن ليس الجميع سواء. فثمة من يقصف من طائرات فوق القانون، وثمة من يقاوم من تحت الركام. وإذا اختلطت الأصوات في المعركة، لا ينبغي أن تختلط الحقائق في التاريخ.
◄ كل صاروخ يُطلق اليوم في سماء غزة ليس إلا اعترافا جماعيا بأن العجز الأخلاقي انتصر على كل ما تبقى من حكمة
أما العالم، فبين من ينتظر، ومن يراهن على توازنات القوى، ومن يغرق في عزلة مصطنعة، تبدو الصورة واضحة، ليست الأزمة أزمة أدوات، بل أزمة ضمير. لا ينقص العالم سلاح، ولا ينقصه نفوذ، ما ينقصه فقط هو أن يقرّر أنه لا يريد أن يكون شاهد دفن، بل شاهد قيامة. لكن يبدو أن الكثيرين اختاروا أن يكونوا حضورا صامتا في جنازة الإنسان العربي.
تُسخّر إسرائيل كل قوتها التقنية والنارية لتقول للعالم: أنا موجودة لأنني أُرهب. وتردّ إيران بمنطقٍ لا يقلّ جنوناً: أنا باقية لأنني أُهدّد. وفي حين يخطئ البعض في وضعهما على خط أخلاقي واحد، فإن الحقيقة لا تتسامح مع التعميم. إسرائيل تُجيد القتل تحت مظلة القانون الدولي المزيف، بينما إيران تمارس التهديد تحت عباءة المقاومة. في الحالتين، الضحية غالبا لا تختار موقعها، بل تُفرض عليها معركة بلا خيار. ومع ذلك، ليس من العدل أن نساوي بين محتلّ ومستَهدف، وبين من يُحاصر غزة ومن يُحاصر الخطاب ذاته.
لكن وسط هذا السواد هناك ما لا يُقصف، الوعي. في زوايا الصمت، حيث يُخيّل للمرء أن الضمير مات، يظهر وجه طفل يكتب على جدار مهدّم: ما زلنا هنا. وربما لا تُسمع أصوات الحكماء في ساحات الطائرات، لكن التاريخ في نهاية المطاف لا يُكتَب بالضجيج، بل بما نجا من الحكمة وسط اللهب.
وفي ستراسبورغ، حين وقف الملك عبدالله الثاني، ملك من أصغر الدول جغرافيّا لكنه تكلّم بأكبر القيم، لم يكن يخطب من أجل بلاده فقط، بل من أجل كل من دُفن صوته تحت ركام العالم. كان حديثه بمثابة مراجعة علنية لضمير الغرب وتذكير بأن الكرامة لا تُقاس بالقوة، بل بالقدرة على الانحياز للحق، حتى عندما يكون الصمت أكثر أمانا. لقد قدّم القضية الفلسطينية، لا كأزمة شرق أوسطية، بل كاختبار أخلاقي عالمي لنظامٍ يدّعي الإنسانية بينما يتجاهل مآسيها حين تكون خارج حدوده.
أنا لا أكتب من برج عاجي، بل من تحت أنقاض التاريخ. المساواة بين الضحية والجلاد ليست عدالة، بل خيانةٌ للعدالة ذاتها. في وجه العبث، الكتابة آخر أشكال الكرامة.
نعم، لا أحد ينتصر حين تخسر الحياة. لكن من لا يزال يملك الكلمة، لا يزال يملك المفتاح. وربما لا نملك دبابات ولا منابر أممية، لكننا نملك الوعي، والجرأة على السؤال: لماذا؟ كيف؟ وحتى متى؟ حين يبدأ العالم من جديد بالسؤال، يولد فعل لا يُدير الأزمة، بل يفضحها، ويكسر حلقتها.
غزة لا تحتاج منّا رثاءً، بل تحتاج أن نعيد ترتيب ضمائرنا تحت أنقاضها.