ليست حربا.. بل بروتوكول للعجز المعاد تدويره

ما يجرى بين إسرائيل وإيران ليس تصعيدا عسكريا، بل لحظة كشف فلسفي، النظام العالمي لم يعد يُدار من أجل الاستقرار، بل من أجل إبقاء الشعوب والدول على حافة الانهيار بشكل دائم. الضربة ليست رسالة، بل نظام تشغيل. الشرق الأوسط لم يعد يُحكم بالقواعد، بل بالأعراض؛ لم يعد يُدار بالقوة، بل بالخوف المُعاد تدويره.
منظرو مدرسة كوبنهاغن للأمن اعتبروا أن الأمن لم يعد فقط حالة، بل خطاب. وكلما ازداد التهديد، ازدادت شرعية الدولة. لكن في الضربة الإسرائيلية لا نجد مجرد خطاب، بل بنية سردية لصناعة الخوف نفسه. إنها لحظة تُستخدم فيها النيران لا لحسم الصراع، بل لإعادة حقن الجسم السياسي العربي – الإيراني بجرعة رعب جديدة، تبرر مزيدا من الانكسار الداخلي.
هنا نستعيد تحذير هوركهايمر من أن “الاستنارة حين تُفصل عن العقل النقدي تتحول إلى خداع جماعي،” فالأنظمة، حتى الديمقراطية منها، باتت تُدير شعوبها بإشعال الخوف لا بإطفائه. الرعب اليوم ليس نتيجة حرب، بل شرط إنتاج سياسي. نحن لا نخاف لأن هناك ضربة، بل الضربة وُجدت كي نخاف.. ونسكت.
أدورنو فهم هذا مبكرا حين وصف الإنسان المفرغ؛ كائن يعيش وسط ضجيج إعلامي وقيادة سياسية لا تنطق بالحقيقة، بل تؤدي دورا مسرحيا. الزعماء الذين يدينون أو يؤيدون الضربة لا يُديرون شيئا فعليا، بل يرقصون في عرض تم إنتاجه مسبقا. إسرائيل لا تهاجم لتنتصر، بل لتؤكد أنها تمتلك المفاتيح. إيران لا ترد لتنتقم، بل لتثبت أنها ما زالت على المسرح. أما الشعوب فتُشاهد وتُصفق، أو تنسحب إلى غرفها وهي ترتجف.
هنا تتجلّى نبوءة جيل دولوز، لم نعد نعيش في دول تقمع شعوبها، بل في “مجتمعات تحكم”، حيث كل شيء يبدو اختياريا لكنه مكتوب مسبقاً. لم يعد هناك قمع، بل وهم حرية داخل سيناريو مرسوم. الصراع بين إسرائيل وإيران لا يُحسم بالسلاح، بل ببرمجة التوقّعات. الجميع يعرف قواعد اللعبة، ويلعب ضمنها.
◄ إنها لحظة تُستخدم فيها النيران لا لحسم الصراع، بل لإعادة حقن الجسم السياسي العربي – الإيراني بجرعة رعب جديدة، تبرر مزيدا من الانكسار الداخلي
ترامب، في هذا السياق، ليس رجل سياسة، بل أداة مسرحية – سيادية تمثل “ما بعد الدولة”. لا يصدر أوامر بناء على معلومات، بل يؤدي رغبات السوق والآلة الأمنية عبر لغة عدوانية تُلهب الجمهور وتُربك العدو.. لكنها لا تغيّر قواعد الصراع. إنه جزء من عرض عالمي حيث تُستعرض القوة لا لتُستخدم، بل لتُباع.
وأوروبا؟ أوروبا لم تعد قوة تفكر، بل آلة ترجمة للكارثة إلى سياسة. مراكز التفكير في برلين وباريس تُنتج تقارير لا لتفكك الصراع، بل لتعيد تركيبه بطريقة تسمح لها بالبقاء خارج النيران. أوروبا لا تريد إنهاء الصراع، بل احتواءه كمادة خام لتحليل طويل، ونقاشات برلمانية لا تنتهي. العقل النقدي الأوروبي استُبدل بما يسميه أدورنو “العقل الأداتي” – عقل يسأل، ما الذي يمكن فعله بالمأساة؟ لا: لماذا تحدث؟
بهذا المعنى، الضربة ليست حرباً، بل هندسة للعجز. إنها لحظة يتم فيها تحويل المنطقة إلى مشهد متكرر من العنف المبرمج، حيث كل طلقة هي جملة في نص أكبر. الشرق الأوسط ليس على حافة الانفجار، بل في قلب نظام عالمي يحتاج استمراره إلى استمرار الصراع، لا حسمه.
الواقع الجديد لا يُدار بالحسم، بل بالتكرار. وكل تكرار يُفرغ الفعل من معناه. وهذا هو “الفراغ العظيم” الذي وصفه نيتشه، وقرأه أدورنو بقلق، عالم يتكلم كثيرا لكنه لا يقول شيئا. شعوب ترى وتعرف، لكنها لا تستطيع أن تتصرف. دول تضرب وتُضرب، لكنها لا تموت ولا تنتصر. صراع لا يقود إلى نهاية، بل إلى إعادة تشغيل المسرحية بممثلين جدد… ونيران قديمة.
نحن لا نعيش زمن الحروب. نحن نعيش زمن “التكرار المحكوم” للعنف، حيث لا يطلب أحد الخلاص، بل التحكم في شكل الجحيم.
الضربة القادمة لن تهبط من السماء، بل ترتفع من الداخل، لحظة نسأل فيها السؤال المحظور.. ماذا لو لم نعد نخاف؟
اقرأ أيضا:
• قبل إيران.. "بيبي" ربح المواجهة مع ترامب!
• إسرائيل.. من إستراتيجية هدم الجدران إلى إسقاط النظام
• الحرب.. من بروفة إلى واقع متجسد في المنطقة