النهضة تجر قيس سعيد إلى مربعها المفضل

ليس هناك شك في أن النهضة استفادت من توقيف البحيري وسرعة استجابة شخصيات سياسية وحقوقية لدعم سرديتها والوقوف إلى جانبها وتحقيق مكاسب أخرى ذات بعد استراتيجي لوقف مسار تراجعها وعزلتها.
السبت 2022/01/08
اختبار جدي لقيس سعيد

وجدت حركة النهضة الإسلامية أخيرا المتنفس الذي ستداري به أزماتها المختلفة بعد فشلها في إدارة الدولة خلال السنوات العشر الماضية، وفشل أسلوب احتواء الأحزاب والحكم من وراء الستار تحت عنوان التوافق.

عادت الحركة إلى مربع المظلومية، وإلى حد الآن نجحت في جر الرئيس قيس سعيد إلى هذا الملعب الذي تجيد اللعب فيه بحرية تامة وفقا للخبرة التي اكتسبتها في سنوات المعارضة للرئيسين الراحلين زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة. ليس أقل من إصدار البيانات اليومية التي تشكو من الظلم وتستجلب تعاطف المنظمات الحقوقية حول توقيف قيادي.

وبقطع النظر عن ظروف التوقيف وأسبابه، وهل أن الأمر تم بشكل قانوني أم في ظروف ملتبسة، فإن للنهضة ماكينة من التحرك الحقوقي والإعلامي تجعلها تعتبر نفسها دائما على حق، ولديها جمهور جاهز للتحرك في أي لحظة على وقع هذه السردية، إنه جمهور المنظمات الحقوقية وأحزاب وشخصيات منتمية نظريا إلى وسط اليسار، لكنها في الواقع في قلب أجندة النهضة مهما كان مسوغ التحرك سواء الدفاع عن الشرعية السياسية أو البكاء على مربع الحريات المفقود.

ولم يتحمل الرئيس سعيد حجم الضغوط والتسريبات والاتهامات التي طالته وطالت المنظومة الانتقالية التي يقودها، والتي رافقت توقيف القيادي في حركة النهضة نورالدين البحيري، وزير العدل السابق الذي يُتهم على نطاق واسع بالتأثير في منظومة القضاء.

وقال قيس سعيد إنّه تمّ توفير كل الاحتياطات الطبية ”لكل من أراد أن يضرب عن الطعام  أو من أراد أن يسايره”، وأنّه تمّ اقتراح نقل البحيري (دون أن يسميه) إلى المستشفى العسكري حيث تتوفر إمكانيات طبية متطورة لا تتوفّر في مستشفيات أخرى.

قضية البحيري اختبار جدي لمدى نجاح السلطات التونسية في تبريد الضجة من حولها، وعدم التنازل تحت وقع الحملات الحقوقية قد يفتح الباب فعليا لمواجهة واسعة ليس مع النهضة فقط

وتقول أوساط سياسية تونسية إن حركة النهضة نجحت في أن تدفع الرئيس سعيد إلى الحديث عن قضية البحيري ليبدو وكأنه الخصم المباشر فيها، وأنه يقف وراءها، والهدف من وراء ذلك اختصار إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021 في تفاصيل قانونية وفي خلاف حول مقاربة الحريات الشخصية والعامة، في الوقت الذي جاءت فيه تلك الإجراءات الاستثنائية ردا أوسع على فشل منظومة حكم النهضة سياسيا واقتصاديا، وحاجة شعبية إلى التغيير قبل أن تكون رغبة من قيس سعيد في تغيير النظام السياسي الهجين الذي قاد البلاد إلى الفوضى.

وكان يفترض ألا ينزل الرئيس سعيد إلى مربع النهضة ويتحول إلى شريك مباشر في الصراع، خاصة أن توقيف البحيري كان يمكن إدارته ضمن صلاحيات وزارتي العدل والداخلية اللتين بان على مسؤوليهما الارتباك في توصيف القضية بسبب الهجوم المكثف لماكينة النهضة الحقوقية والإعلامية والبعد الإنساني الاستعراضي سواء من البحيري أو زوجته سعيدة العكرمي من خلال الامتناع عن تناول الدواء والأكل والاعتصام في فناء المستشفى.

ليس هناك شك في أن النهضة استفادت من توقيف البحيري وسرعة استجابة شخصيات سياسية وحقوقية لدعم سرديتها والوقوف إلى جانبها لتحقيق مكاسب أخرى ذات بعد استراتيجي لوقف مسار تراجع النهضة وعزلتها سياسيا وشعبيا بعد الخامس والعشرين من يوليو.

وليس أفضل من فرصة توقيف البحيري لإعادة بناء استراتيجية بديلة ذات بعد هجومي بعد أن كانت الحركة تكتفي في دفاعها عن نفسها بمواجهة الاتهامات الكثيرة بدءا بتحميلها المسؤولية عن الفشل الاقتصادي الذي عاشته تونس خلال السنوات الماضية، وصولا إلى اتهامات اللوبيينغ والتمويل الخارجي، التي تهز من سردية حركة النهضة التي تؤكد باستمرار أنها حركة تونسية وليست لها ارتباطات خارجية.

ومن شأن قضية البحيري والصدى المحلي والخارجي، الذي تسعى النهضة لتوسيعه في المكان والوقت أكثر ما يمكن، أن يغطّيا على موضوع اللوبيينغ وما قد يتبعه من إجراءات قد تصل إلى حل الحزب، ومنعه من المشاركة في الانتخابات القادمة، وتسليط عقوبات على أبرز قيادييه.

وإلى الآن تسير الأمور في الاتجاه الذي تريده، إذ أصدرت النيابة العمومية قائمة إحالة على القضاء تضم أغلب الشخصيات التي ترشحت إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية بتهم لن يتجاوز سقف العقوبات فيها خطايا مالية وفق توقعات محامين ومحللين سياسيين، وهي خطوة تخدم النهضة أكثر مما تضر بها، فهي تجعل التجاوزات التي حدثت في الحملات الانتخابية لسنة 2019 تجاوزات جماعية، كما منحتها فرصة التشكيك في القائمة بضم راشد الغنوشي إلى قائمة أغلب الموجودين فيها من المترشحين للرئاسة فيما هو كان قد ترشح للانتخابات التشريعية. كما أثيرت تساؤلات حول غياب الرئيس سعيد نفسه عن القائمة.

كان يفترض ألا ينزل الرئيس سعيد إلى مربع النهضة ويتحول إلى شريك مباشر في الصراع، خاصة أن توقيف البحيري كان يمكن إدارته ضمن صلاحيات وزارتي العدل والداخلية

وتوفر هذه المعركة المفتعلة، والتي تكبر يوما بعد آخر خاصة بعد دخول الرئيس سعيد على خط النقاش فيها، فرصة أمام النهضة للتنصل من فشل السنوات العشر الماضية من خلال حرف النقاش في الساحة السياسية عن أسباب الأزمة الاقتصادية والجهات المسؤولة عنها، وفرص الخروج منها، وموضوع الحوار الوطني الذي يفضي إلى رؤية مشتركة وجامعة تتبنى الإصلاحات الاقتصادية الضرورية.

وتمتلك المظلومية سحرا خاصا ليس فقط في جلب اليسار الحقوقي ليتحرك وراء النهضة متناسيا الخلافات الجوهرية معها، ولكن أيضا في تسهيل عودة القيادات النهضاوية التي استقالت وحمّلت الغنوشي ونائبه البحيري مسؤولية تراجع النهضة وعزلتها. وقد رأينا أن سمير ديلو الذي كان يتزعم قائمة المستقلين قد عاد بسرعة ليكون ناطقا رسميا باسم لجنة الدفاع عن البحيري. كما أصدرت قيادات مستقيلة أخرى مواقف داعمة للبحيري بشكل لا لبس فيه.

ويمكن وصف ما جرى بأنه نصر للغنوشي داخل حركة النهضة، حيث وفرت حادثة توقيف البحيري فرصة أمامه لم يكن يحلم بها لمصالحة من استقالوا واتهموا بتخريب الحركة وتحويلها إلى ملكية خاصة.

ومن المهم الإشارة إلى أن مناورة النهضة بملف البحيري والنجاح في تحويله إلى قضية أولى تفرض الاهتمام على الرئيس سعيد نفسه تكشف أن الحركة قد استفادت في ذلك من ضعف الاتصال لدى مؤسسة الرئاسة ورئاسة الحكومة والوزارات المعنية بالقضية، حتى أن ظهور وزير الداخلية في مؤتمر صحافي سريع لم ينجح في إسكات الخصوم  بالرغم من الإشارات التي قدمها عن التهم الموجه للبحيري والتي كان يمكن توظيفها لتكون بمثابة ضربة قاضية لحركة تقول دائما إنها حركة مدنية وسلمية.

وجعل ضعف الرواية الرسمية الإعلام الحكومي والخاص يركزان أكثر على رواية النهضة، وحتى إنْ سعى بعض المحللين وضيوف التلفزيون لأن يفندوها فإنهم يكتفون بمواقف ضبابية في غياب الرواية المضادة الدقيقة.

إن قضية البحيري اختبار جدي لمدى نجاح السلطات التونسية في تبريد الضجة من حولها، وعدم التنازل تحت وقع الحملات الحقوقية قد يفتح الباب فعليا لمواجهة واسعة ليس مع النهضة فقط، بل أيضا ضدّ كل التجاوزات التي جرت قبل الخامس والعشرين من يوليو سياسيا واقتصاديا وقضائيا.

8