النقد العربي وغياب المفارقة

الاثنين 2017/12/04

لم تعرف الدراسات الأدبية العربية مصطلح “المفارقة” إلا منذ وقت قريب، من خلال الترجمة، في حين عرفته الدراسات الأدبية الغربية منذ زمن بعيد، فقد كتب عنه الشاعر والناقد والفيلسوف الألماني فردريك شليجل، وهو أول من أدخله في مجال الأدب. حيث عدّ المفارقة شكـلا مـــن النقيضـة، وإدراكا لحقيقة أن العالم في جوهره ينطوي على تناقض، وأن الوعي الضدي هو الذي يستطيع الإمساك بكليته المتنافرة. والمفارقة تعني، في رأيه، ذلك الصراع بين المطلق والنسبي، والوعي المصاحب للاستحالة.

مما يؤسف له أن الثقافة العربية لم تظهر فيها غير مجموعة قليلة من الدراسات النظرية والتطبيقية التي حاولت أن تقرأ تجليات المفارقة في السرد القصصي والروائي والشعر القديم والحديث والأمثال، ولعلّ أهم دراستين نظريتين هما دراسة كلّ من نبيلة إبراهيم في كتابها “فن القص في النّظرية والتطبيق”، الذي خصصت فيه مبحثا للمفارقة مع نماذج تطبيقية عن الجاحظ والمتنبي والمازني، ودراسة سيزا قاسم الموسومة بـ”المفارقة في القص العربي المعاصر”، ودراسة أمينة رشيد الموسومة بـ”المفارقة الروائية والزمن التاريخي”، ودراستا نجاة علي “المفارقة في أعمال يوسف إدريس” و”مفهوم المفارقة في النقد الغربي”.

وشخصيا حاولت أن أدرس المفارقة في قصص محمود الريماوي في المقدمة التي كتبتها لمجموعته القصصية “رجوع الطائر”، وفصّلت في أنواعها التي تنطوي عليها تلك القصص، وهي على نحو عام مفارقات مشهدية ولفظية مثيرة للسخرية الناعمة، ومواقف غير معقولة ومتنافرة مع الواقع، أو تتسامى عليه باشتباك أصحابها مع أحلام وهواجس وأفكار ذات نفحة أخلاقية عالية، وبحث طفولي مفعم بالبراءة والحساسية عن الإلفة والوداعة والجمال في الكائنات الحية.

ولعل أشهر من كتب عن “المفارقة، مفصلا في أنواعها هو دي. سي. ميويك، الذي ترجم عبدالواحد لؤلؤة كتابه عن الإنكليزية بعنوان “المفارقة وصفاتها” في موسوعة المصطلح النقدي.

كما ترجم له محمود خربطلي وخالد سليمان فصلي “فضاء المفارقة” و”عناصر المفارقة” في مجلة “الآداب الأجنبية” السورية، درس فيهما أنواع المفارقة: التراجيدية، والكوميدية، الفلسفية، العملية، الدرامية، الساذجة، البلاغية، اللفظية، المزدوجة، الذاتية السقراطية، الرومانسية، مفارقة السلوك، مفارقة الموقف… إلخ، ليرى أن عددا منها انبثق من تأثيرها، وعددا آخر من وسطها، وعددا من تقنيتها أو دورها أو موضوعها أو ممارسها أو نغمتها. ويوضح ميويك أنه يمكن أن تكون لأنواع المفارقة تصنيفات مستقلة وإن كانت غير وافية بمعزل عن بعضها البعض، وتقوم كل منها على وجهة نظر مختلفة.

لكن مجرد الاستمرار في اختراع هذا الكم المتبعثر من المصطلحات واستعمالها، كلما تطلبت المناسبة، سيؤكد عدم رؤية أي علاقة منتظمة بين هذه الأنواع، ومن ثم فإن المرء لن يتمكن من الحصول على صورة واضحة لمجال المفارقة كله. وهذا يعني أن مفهوم المفارقة يكتنفه الإبهام نظرا لارتباطها الوثيق بالهجاء، وبظواهر أخرى كوميدية، غريبة، مضحكة، ولا معقولة. ونتيجة لذلك ثمة ميل لتعريفها وفقا لسمات هذه الأشياء التي يستعصي بعضها على التعريف أكثر من المفارقة ذاتها.

الفيلسوف والناقد الفرنسي المعاصر جيل دولوز كتب أيضا عن مفهوم المفارقة من منظور فكري، مؤكدا أن قوتها تكمن في كونها ليست تناقضية، بل تجعلنا نعايش تكوّن التناقض، ذلك أن مبدأ التناقض يطبق على الواقع وعلى الممكن، لا على المستحيل الذي ينبثق عنه، أي عما يمثل المفارقات. لكن بعض الباحثين يرى أن بنية المفارقة تقوم على اجتماع عناصر ثنائية متضادة لا يُتَوقع لها أن تجتمع في سياق واحد، أو موقف واحد، فقد نرى من الأفعال والأقوال ما يبين تجاهل العالم، وتعالم الجاهل، وانخداع الماكر وما إلى ذلك من المظاهر التي تحمل في اجتماعها وبين طياتها ذلك العنصر الذي يقوم على المفارقة.

وإذ نتساءل عن غياب الدراسات العربية عن هذا الحقل المهم في عملية استكشاف مضمون الأدب وتقنيات كتابته، إنما نربط هذا الغياب بكسل النقد من جهة، وضعف التفكير النقدي الذي أنتج تراخيا في قراءة الظواهر وغيابا كليا لبعض الظواهر الأدبية عن حقل الدراسات النقدية.

كاتب عراقي

14