النقابات تعود إلى لعبة ليّ الذراع مع الحكومة التونسية

هل تحتاج تونس إلى إضرابات جديدة، وهل ستقدر على تخصيص تمويلات لزيادة الرواتب في وضع اقتصادي ومالي صعب.
الأحد 2023/11/12
الإضرابات والخلافات تؤثر على جدوى التعليم

عادت نقابة التعليم الثانوي إلى الواجهة من خلال دعوتها وزارة التربية إلى جلسة تفاوض جديدة محملة بسلسلة من المطالب المالية العاجلة في وقت كانت فيه الوزارة تعتقد أنها قد أغلقت ملف التفاوض مع نقابة الثانوي من السنة الماضية بعد الاتفاق معها على تأجيل مختلف المطالب إلى سنة 2026 كنوع من الهدنة.

ما سر تراجع النقابة عن اتفاق السنة الماضية؟ الحكاية تكمن في أن القيادة النقابية في الثانوي التي وقّعت اتفاق السنة الماضية خسرت الانتخابات وخرجت من القيادة، وحل محلها فريق جديد ليس من جماعة الوزير ولا يوجد بينه وبينهم تقارب سياسي ونقابي كما كان مع الجماعة المتخلية.

وإذا كان الفريق المتخلي قد راعى “العشرة” مع الوزير ومنحه فرصة لإثبات قدرته على إدارة الوزارة ورفع أسهمه عند الرئيس قيس سعيد، ومكّنه خاصة من الانفراد بنقابة التعليم الأساسي ومواجهتها بقوة، فإن الفريق الجديد من الشق المعارض للوزير سياسيا ونقابيا، وهو ما يعني أن المعركة وإن كانت بعناوين نقابية ومطالب مادية، فإنها لا تخلو من سياسة مقنّعة، خاصة أن الفريق الجديد لنقابة الثانوي محسوب على بعض قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل.

◙ ما يناقش بالنسبة إلى الإضرابات التي تهز البلاد منذ ثورة 2011 أنها تقفز على وضع الدولة وإمكانيات المالية العمومية وقدرتها خاصة مع تراكم الزيادات في الرواتب

وتحرك نقابة الثانوي ذات الوزن ضد الحكومة حتى لو كان في حده الأدنى، أي المطالبة بتنفيذ اتفاقات سابقة بشأن المنح والزيادات، مثل منحة العودة المدرسية، و”صرف المستحقات المالية للمدرسين المتخلّدة بذمة الوزارة والتراجع عن الاقتطاع من رواتب بعض المدرسين والقطع مع التشغيل الهش” سيشجع نقابات أخرى على التحرك ورفع المطالب التي بدا أنها قد أجّلتها تجنبا للصدام مع الحكومة في وضع سياسي جديد تبدو فيه الدولة أكثر حزما واستعدادا للمواجهة على عكس وضع سابق كانت فيه النقابة تضغط والحكومة تستجيب بحثا عن الاستقرار الاجتماعي.

ومن النقابات التي ستحصل على دفعة قوية من عودة نقابة الثانوي إلى الواجهة نجد نقابة التعليم الأساسي التي تضررت من مغامرة حليفتها في الثانوي السنة الماضية بعدما فضلت نقابة التعليم الثانوي أن تقف في صف الوزير الجديد وتنأى بنفسها عن الصراع مع السلطة وفق أجندة خاصة بالحزب الذي تنتمي إليه قيادة النقابة، وتركت نقابة الأساسي وجها لوجه مع الوزير الذي بادر إلى اتخاذ عقوبات ضد المعلمين والمديرين الذين تمسكوا بقرار حجب نتائج الامتحانات وعدم تسليمها إلى الإدارة.

وأعفت السلطات التونسية 350 مدير مدرسة من مناصبهم، وحجزت رواتب الآلاف من المدرسين على خلفية رفضهم تسليم نتائج الامتحانات. فلم تجد النقابة من بد سوى التسليم بالأمر، ودعوة المدرسين الذين ظلوا في صفها إلى آخر وقت، ونسبتهم محدودة، بأن يسلموا النتائج.

وكان لهذه القرارات وقع على نفوس المدرسين وعلى مزاج التصعيد الذي كانت لوحت نقابة الأساسي بالدخول فيه مع بداية العام الدراسي، لكن إلى حد الآن لم يبد منها أي تصعيد. والأمر لا يتعلق بحكمة أو مناورة من النقابة، ولكن لأنها تعرف أن المدرسين لن يقبلوا بالدخول في مغامرة غير محسوبة، وأنهم ليسوا مستعدين لصراع مع الوزير المسنود بقوة من السلطة.

فلا أحد يناقش مشروعية المطالب المادية لرجال التعليم، فهذا من حقهم ضمن وضع اجتماعي معقد ومع ارتفاع كبير الأسعار، وخاصة في ظل تغييرات حقيقية داخل المجتمع حولت المدرسين، ثانويا وأساسيا، من موقع متقدم ضمن الطبقة المتوسطة إلى هامش في هذه الطبقة مع صعود قوى جديدة بعوامل لا تتعلق بالسلم الاجتماعي التقليدي القائم على شهائد التعليم، حيث انتقلت الثروة والوجاهة إلى نجوم الرياضة، والمؤثرين على مواقع التواصل، والمهربين الذين استغلوا تراجع الدولة في العشرية الماضية ليتحولوا إلى أثرياء جدد.

ما يناقش بالنسبة إلى الإضرابات التي تهز البلاد منذ ثورة 2011 أنها تقفز على وضع الدولة وإمكانيات المالية العمومية وقدرتها، خاصة مع تراكم الزيادات في الرواتب والمزايا لمختلف القطاعات طيلة السنوات الماضية في اقتصاد شبه متوقف ودولة ليس لها من عائدات سوى ما تحصله من الضرائب.

وقاد الصراع بين النقابات، على مراكمة الزيادات والمزايا بما يفوق قدرة الدولة، إلى التضخم وأسهم في ارتفاع الأسعار وتدني قيمة العملة. ولهذا يحتاج الأمر إلى مقاربة أخرى من خلال الحوار مع الحكومة وليس من خلال الاستمرار في المطالب والتلويح بالإضرابات.

ولن يكون هناك حوار مع الحكومة دون انفتاحها على اتحاد الشغل على أرضية الحوار الاجتماعي وليس وفق أرضية أخرى تدفع السلطة إلى التراجع، ومنها بحث قيادة الاتحاد عن دور سياسي من خلال مبادرات الحوار الوطني وخرائط الطرق.

فهل تحتاج تونس إلى إضرابات جديدة، وهل ستقدر على تخصيص تمويلات لزيادة الرواتب في وضع مالي صعب يضغط عليها من أجل اللجوء إلى صندوق النقد لتحصيل التمويلات والاضطرار إلى الإصلاحات التي ترى أنها ستزيد من تعقيد الوضع الاجتماعي وتضرب قدرة الطبقات الضعيفة والهشة، والتي باتت الطبقة الوسطى جزءا منها؟

إذا ضغطت النقابات على الحكومة من أجل الزيادات، فهي تقول لها اذهبي إلى صندوق النقد واستديني وليس مهمّا وضع الفئات الفقيرة ولا مصير المؤسسات الحكومية الفاشلة التي يضغط الصندوق عبر الإصلاحات للتفويت فيها للخواص..

◙ يفترض أن تراجع قيادة اتحاد الشغل قطار المطلبية الذي لا يريد أن يتوقف عند أيّ محطة، فهي لا تنتزع الأموال من خزينة دولة نفط أو غاز إذا أنفقت لم تتأثر

وما رأي اتحاد الشغل، الدفع نحو صندوق النقد، أم القبول بتهدئة تسمح للحكومة بترتيب أمورها والاعتماد على التقشف في المال العام من أجل الخروج من الأزمة ولو خلال خمس سنوات؟ هل تقدر النقابة على الانتظار؟ هل تقبل بهدنة اجتماعية أم تسير بمنطق أنا ومن بعدي الطوفان؟

لم يعد الوقت يسمح بالمزايدة السياسية على السلطة ومطالبتها بأن تتدبر أمرها لجلب التمويلات وضخها في زيادة الرواتب وإسكات المطالب التي لا تنتهي لقطاعات باتت تنافس بشأن من يحقق مكاسب أكبر من دولة بخزينة شبه خاوية.

يفترض أن تراجع قيادة اتحاد الشغل قطار المطلبية الذي لا يريد أن يتوقف عند أيّ محطة، فهي لا تنتزع الأموال من خزينة دولة نفط أو غاز إذا أنفقت لم تتأثر، وحتى الدول النفطية بدأت تتقشف وتراجع نظام الرفاهة القديم الذي يقوم على “أنفق ما في الجيب يأتي ما في الغيب”، أي الإنفاق دون حساب وضع الدولة، وحسابات قطاعات أخرى، وفئات اجتماعية باتت أكثر تضررا من زيادات للرواتب تدفع إلى زيادة التضخم وإلهاب الأسعار.

التونسيون ليسوا ضد النقابة في المطلق، ولكنهم يعارضون هذا الصلف الذي يجعل من مهمة النقابة فرض الأمر الواقع على حكومة تدور من مكان إلى آخر لجمع الأموال لتحريك الاقتصاد والاستثمار وتوفير مواطن الشغل، فتجد نفسها مجبرة على تحويل ذلك الجهد إلى زيادات في الأجور غير مبررة وغير مقنعة ولا يتحملها الاقتصاد.

5