النشاط الثقافي في رمضان يغير وجهته دون أسباب

وسم المسلسلات في الصالون وادعاء التراث وتعويض العقول بالبطون.
الأربعاء 2023/03/22
نشاط مختلف وممكن في رمضان (من أرشيف مهرجان المدينة بتونس)

من المثير تغييب الكثير من الأنشطة الثقافية والفنية في شهر رمضان، مثل العروض المسرحية والسينمائية وحفلات الموسيقى الحديثة واللقاءات الفكرية والندوات وغيرها الكثير، التي تعوضها أنشطة تلبس عباءة التراث، تماشيا مع سمات المناسبة الدينية الروحية، وهذا خطأ فادح يقع فيه الكثيرون.

نعم، تتغير المواعيد والمواقيت في شهر الصيام، ولكن لماذا تتغير معها الأنشطة الثقافية والفنية في العالم العربي فترتدي العباءة التراثية دون أيّ مبرر ديني أو فقهي؟

صحيح أنه شهر للعبادة وانصراف الكثير من الناس إلى حياة تعبدية تستند إلى جملة شعائر دينية تحتفي بها المجتمعات الإسلامية في أصقاع العالم، لكن هذا لا يعني أن تغلق صالات العرض أبوابها وتسدل المسارح ستائرها وتغير الندوات الفكرية من عناوينها تحت ذريعة أننا في شهر التقوى والعبادة.

نشاط للبطون

ربما يغلب الطابع الروحي على بعض الأنشطة الثقافية والفنية انعكاسا لمظاهر الحياة الاجتماعية واستجابة لإيقاع الشارع ومزاجه. الشارع الذي يغير من مواقيته ويعدل من عاداته الغذائية، لكن من قال للمشرفين على برمجة العروض إنه استغنى عن حاجته للثقافة والفنون.

يتهيأ لهؤلاء “الساهرين على الحياة الثقافية” في العالم العربي أن عقول الناس تتوقف في الشهر الكريم لتعوضها الاستجابة لنداءات البطون، والتركيز على مهمة المطابخ في إعداد الأطباق، لا لكونها ثقافة مطبخية وازنة بعمقها الأنثروبولوجي المعرفي، بل في سياقها الغريزي الذي يلبّي طلبات المعدة، لا العقل البشري وما يسد رمقه من غذاء فكري.

الحياة الاجتماعية الرمضانية غنية بالحركة والنشاط، خصوصا فترة ما بعد الإفطار التي يرافقها توق للسهر والمسامرات واللقاءات، فلماذا لا يرافقها إنتاج ثقافي يليق بهذا الزخم الاجتماعي، ويتجنب عقلية التسلية التي عادة ما تركن إلى كل ما هو سهل وسطحي وتهريجي في غالب الأحيان.

القائمون على النشاطات الثقافية يفترضون سلفا أن العقول في شهر الصيام تصاب بالكسل وتجنح للاستهلاك البسيط

لماذا يفترضون سلفا أن العقول في شهر الصيام تصاب بالكسل، تتعطل عن التفكير، وتجنح لاستهلاك كل ما هو رديء، في حين أن التقاليد الأسرية المرافقة لهذا الشهر تسمح بالإقبال على كل ما هو غث وسمين من نشاط فني وفكري.

وحده الإنتاج الدرامي في التلفزيون يأخذ نصيب الأسد من الاهتمام والمتابعة، حتى أن موسم رمضان أصبح بمثابة المهرجان الحقيقي للمسلسلات، حيث تتبارى فيه أحدث الإنتاجات وأكثرها كلفة وتمويلا.

لسنا في معرض انتقاد هذه الظاهرة الفنية الصحية، وإنما حبذا لو توزعت على مدار العام، وكسرت تلك النمطية الرتيبة التي انحصرت في حالة موسمية حضرت فيها المسلسلات دفعة واحدة كأطباق الإفطار، وغابت عن بقية أشهر العام.

ما ينبغي أن نعلمه هو أن النشاط الفني والثقافي في رمضان لا ينبغي أن يقتصر على استهلاك المسلسلات في صالونات البيوت، ولا التزود بمعلومات تراثية من التاريخ القديم في الجرائد والإذاعات، ولا حتى التفكّه والضحك مع شخوص الكاميرا الخفية.

هو نعم، شهر للصيام والعبادة، وليس خيمة نلبس تحتها العباءات المطرزة، نتناول الحلويات، ونجتر فيها “أيام الزمن الجميل” مستعرضين صور الأسود والأبيض.

من قال لهم إن هذا من طقوس رمضان ويجب علينا التمسك بها مثلما يتمسك مؤمن بشعائر عبادته؟ من كرّس هذه “الاحتفاليات” التي لا تحتفي بالإبداع الفني والإنتاج الفكري حتى أصبح الأمر قضاء وقدرا تتحضر له وسائل الإعلام بتخصيص صفحات وبرامج أشبه بإمساكيات رمضان ومواعيد الإفطار، كما تستعد له قاعات العرض وصالات المسارح بإغلاق أبوابها.

بعيدا عن الرتابة

غغ

صحيح أن لرمضان نكهة روحانية ومزاجا إيمانيا لدى الصائمين ودفئا أسريا لدى المجتمعين إلى موائد الإفطار، لكنه ليس شهرا للعطالة الفكرية والتصحر الثقافي بل على العكس تماما، إذ من الأجدر استثمار أجوائه الاحتفالية في سبيل المزيد من التخصيب الفكري والإبداعي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ثقافة الترفيه ليست معيبة ولا من شأنها أن تميّع النشاط الثقافي وتعمل على تسطيحه، كما يزعم المتسرعون والمتهافتون، بل من شأنها أن تجعل من الثقافة مادة قابلة للهضم، وعادة اجتماعية فضيلة ومكرسة لدى المجتمع بكل شرائحه وفئاته العمرية.

ثمة في العالم العربي من تنبه إلى هذا الأمر وسارع إلى تصحيح المفاهيم المتعلقة بعدم الزج بالنشاط الثقافي في متاهات التفسيرات الفقهية المختلفة والمتعددة، فأوجد من احتفاليات رمضان إطارا مناسبا لتكثيف النشاطات الثقافية والفنية مثل مهرجان المدينة في تونس، والذي أصبح منذ تأسيسه منذ سنوات مناسبة للاحتفاء بالفن الراقي المحلي والعالمي طيلة النصف الثاني من شهر رمضان.

كما أن بلدا مثل المملكة العربية السعودية مثلا، تنبه إلى فاعلية الجانب الترفيهي في التنشيط الثقافي فخصص له هيئة نجحت منذ 2019 حتى الربع الأول من العام الحالي في دعم واستضافة أكثر من 82 مسرحية بما يُقارب أكثر من 350 عرضا مسرحيا، كما تم تمكين الآلاف من المواهب من المؤدين للمشاركة في الفعاليات والعروض الحية في المطاعم والمقاهي.

Thumbnail

وبسوية أقل تنسج بعض الدول العربية على نفس المنوال، لكن غالبيتها مازالت تتعامل مع شهر الصيام بنوع من الرتابة التقليدية والموسمية، مما يجعل الذهنية تعتقد أن شهر رمضان هو نوع من الانزواء والاعتكاف، ولا يبتعد عن كون سهراته مجرد أوقات للتسلية الباهتة واستهلاك الكليشيهات التراثية كما تستهلك الأطعمة والحلويات.

صفوة القول، إنه حان الوقت للتعامل مع الشأن الثقافي بجدية ومسؤولية، وبعقلية بعيدة عن الرتابة وإعادة إنتاج الممجوج والمستهلك، الأمر الذي أصاب ثقافتنا بالوهن والعجز عن مجاراة الثقافات الحية في العالم.

12